لطالما وُصف لبنان في الأدبيات العربية بأنه سويسرا الشرق. لطالما نظر إليه عرب خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي بنظرات الانبهار، وتحدثوا عنه في ذكرياتهم بلسان الإعجاب. كان لبنان آنذاك قبلة المتنورين والمثقفين والباحثين عن أسلوب حياة حديث ومتطور. كان يستقبل على مدار العام أفواجاً من العرب الذين يسعون لأن يضعوا لهم بصمة في الحياة من خلال المنصات اللبنانية، التي لم تكن متوافرة في الكثير من البلاد العربية في ذلك الوقت.
كان لبنان ماكينة إنتاج للكثير من المبدعين والمبدعات في شتى المجالات الإنسانية، وفي الوقت نفسه كان منصة إعادة تصدير للمنتجات الغربية إلى الدول العربية المحيطة به. كان كل ذلك لأنه كان «سويسرا الشرق»، وكان سويسرا الشرق لسببين رئيسيين، لأنه كان مركزاً مالياً كبيراً ومتطوراً مثل سويسرا بالضبط، ولأنه كان يضم الكثير من الطوائف العرقية والدينية التي تعيش فيما بينها بانسجام وتناغم كما سويسرا بالضبط.
تسعة أفعال «كان» في هذه المقدمة القصيرة، وكان كما نعرف فعل ماضٍ، يُعبر عن أحداثٍ في الزمن الغابر لا تكتمل إلا بالحسرة والندم! فهل ما زال لبنان «كائناً» سويسرياً في قلب الشرق الأوسط؟ الإجابة هي لا بالطبع، فلبنان اليوم دولة أقرب إلى الفشل، ويكاد يكون خارج محددات الدولة، فالحكومة ليست موجودة على أرض الواقع، والسيادة مفقودة، والاعتراف الدولي يغيب ويحضر. لبنان اليوم شعب وأرض فقط، وهذا الأمر فيه خطر كبير على وجود الدولة في السنوات القليلة المقبلة.
كيف يعود لبنان إلى ما كان عليه؟ كيف يصبح من جديد سويسرا جديدة في الشرق الأوسط؟ والإجابة لهذين السؤالين هي بأن لا يحاول أن يكون فقط صورة لسويسرا، وإنما يكون سويسرا بالفعل!
لا أمل للبنان في الخلاص مما هو فيه، إلا بالتحول لنظام «حكومة الجمعية» تماماً، مثلما هو معمول به في سويسرا في الوقت الحالي. جرب اللبنانيون النظام البرلماني خلال العقود الماضية، ولم ينجح. جربوه مرة وفشل، ثم عادوا وجربوه ففشل، ثم كرروا التجربة ففشلوا. وما زالوا حتى اليوم مصرين على التجربة، ومصرين على الفشل!
لبنان يحتاج في العقود المقبلة لإدارة جماعية تُنتخب من البرلمان. لا لرئيس الوزراء الطائفي، ولا لرئيس الدولة الطائفي الذي بلا صلاحيات، لكنه قادر على التعطيل! لا للمحاصصة السياسية في الوزارات والرئاسات الثلاث، ولا للثلث المعطل! لا للبنان المفكك والمجزأ!
خلاص لبنان في «حكومة الجمعية» لكن بتعديلات طفيفة. البرلمان ينتخب حكومة مكونة من وزراء بعدد الكتل الرئيسية لإدارة البلاد. خمسة وزراء فقط (ماروني وأرثوذوكسي وسني وشيعي ودرزي) ينتخبون فيما بينهم رئيساً يمثل لبنان خارجياً ويُدير الأعمال داخلياً لمدة سنة واحدة فقط. ثم يعيدون انتخاب رئيساً غيره لسنة أخرى، وهكذا. وتكون قرارات هذه الحكومة المصغرة الممثلة لجميع أطياف لبنان نافذه بحد أدنى (اثنان + واحد).
خلاص لبنان في أن يكون المشرّع هو المنفّذ، والبرلمان خاضع لإرادة نوابه وليس لإرادة الرئيس المنتمي لطائفة!
خلاص لبنان في أن يكون مثل سويسرا بالضبط، لكن بشكل يتناسب مع تعقيدات الوضع فيه. لكن هل ستسمح الأحزاب الرئيسية بتساوي الرؤوس؟ الإجابة هي لا قطعاً، لكن الضغط الشعبي الذي هو العنصر الوحيد الباقي من الدولة بإمكانه أن يجبرها على ذلك، بمعاونة صغيرة من فرنسا الراعية.
* كاتب سعودي