هل وصلنا إلى وضع التاريخ الإنساني بكل آدابه وفنونه وتراثه «الأدبي» في متحف التاريخ؟ هل سنصل يوما إلى النبش والحفر بحثا عن «قصيدة أو نص أدبي أو لوحة فنية» لتعليبها «ضوئيا» في فضاء إلكتروني مبوب ومصنف ويتم استدعاؤه حسب الطلب؟ أليس هذا ما نفعله حقا حين نستدعي أيا من ذلك بكبسات أزرار على شاشة مضيئة؟

في عام 1989، كنت ممن قرأوا النسخة الأولى من نظرية «نهاية التاريخ» في صيغتها الأولى كمقال نشرته مجلة «ناشونال إنترست»، وطبعاً وقتها قبل عصر الإنترنت قرأت المقال مترجماً في إحدى الصحف التي كان بها صفحة «دراسات ومقالات مترجمة».
في ذلك الزمن، وبهذا العمر الغض الذي كنت فيه، فعل المقال فعلته وأبهرني وأسكنني في الدهشة، وطبعاً حماس الشاب الذي كنته في ذلك الزمان، جعلني أتبنى النظرية وأروج لها في الجلسات مع أصدقائي مُتباهياً ومستعرضاً الأفكار فيها كأنها بنات أفكاري.

لم أقرأ فرانسيس فوكوياما يوماً قبل مقاله هذا، لكن حفظت عنه كل شيء وقتها، وحين حوّل مقاله إلى كتاب منشور، لم أكن مهتماً، فالمقال كان كافياً لأستعرض عضلاتي الفكرية المقتبسة عن مقال يتيم لا أكثر.

طبعاً، لم أكن في حالة شلل فكري، فالمقال حفزني فيما بعد لأقرأ هيغل، وقد أورده فوكوياما في مقاله حين ذكر التعريف الهيغلي للتاريخ على أنه ليس تتابعاً اعتباطياً للأحداث، بل تعاقب فكري وأيديولوجي.

هيغل قادني إلى ماركس، الذي لم أستوعبه جيداً لكن على الأقل حاولت، والأصعب كان رفيقه إنجلز، الذي كان لديه تبسيط لا يخلو من التعقيدات أيضاً، وهؤلاء قادوني إلى سلسلة لا تنتهي ولم تنتهِ حتى اليوم من قراءات مستمرة أتعلم فيها كل مرة الجديد، ولم يخلُ ذلك من أسماء عربية صاغت منهجية التفكير عندي وأدهشتني مثل: محمد عابد الجابري والصادق النيهوم ومحمد أركون وفاطمة المرنيسي.
في نظرية «نهاية التاريخ» بصيغتها الأولى، كانت هناك صورة رسمها فوكويوما متخيلة بعد أن انتصرت الليبرالية الديمقراطية كآخر الأفكار وخلاصتها النهائية. الصورة تتعلق بالآداب والفنون والموسيقى والإرث الثقافي الذي يمكن في مجتمع الروبوتات أن ينتهي في متحف التاريخ، يزوره الأطفال «المدججون بالعلم والتقنية» لرؤية ما كان أسلافهم مشغولين به. الفكرة أرعبتني يومها، ووضعت عندي تصوراً لمستقبل «تقني» سيئ.

حسناً، أنا اليوم في منتصف تلك الذروة التقنية (ربما هناك أكثر مما يمكن تخيله مستقبلاً)، ولا أرى أي متحف لكل ما سبق ذكره، ربما تمَّ تجميع كل ذلك في جهاز لوحي صغير بحجم راحة اليد، هل هذا هو المتحف المقصود؟

على كل حال، لست منزعجاً من مآلاتنا البشرية اليوم، فهي حصادنا وجزء من سياق تطورنا البشري، وأؤمن بأن الإنسانية هي التي تتغلب في كل مراحل التطور، ومتيقن أننا لم نترك الفنون والآداب والتراث الإنساني في متحف منسي لا يزوره أحد، كما أن الديمقراطية الليبرالية بوصفتها الأميركية البحت لم تنتصر وتسيطر على العالم.
* كاتب أردني مقيم في بلجيكا