في مخاض التحولات السياسية التي تبلورت بعد الحرب الروسية الأوكرانية، على صعيد تبدل التحالفات والاتجاهات الدولية أو إعادة تموضعها، يبدو جلياً أن العودة للوراء، إلى ما قبل فبراير 2022 يبدو مستحيلاً، والتجديف لإحراز سلام، بين روسيا والولايات المتحدة، ضرباً من ضروب المستحيل.
يحتاج العالم اليوم إلى أفكار جديدة للدبلوماسية الدولية، أكثر من أي وقت مضى، فيصبح البحث في إيجاد حلول ضمن الاستراتيجيات الدبلوماسية التقليدية، من خلال المبادرات الباردة، أو تصعيد التلميحات والتصريحات لجذب الخصوم، أو إبقاء القنوات الخلفية الشائكة مفتوحة، غير مجدٍ، في خضم الاستقطاب الدولي حول الناتو من جهة وحول روسيا والصين من جهة أخرى.
أمس الأول، تعبر سفينتان حربيتان أميركيتان، مضيق تايوان، فيزداد الغضب الصيني، لكن المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، جون كيربي، يسارع إلى القول إنه «قد تم التخطيط لهذا العبور منذ فترة طويلة، وأن هذه الخطوة تتماشى إلى حد بعيد مع سياسة الصين الواحدة»، وهذا تلميح صريح، ليس على أعلى مستوى أميركي، لكنه يؤكد أن أميركا ترغب في وأد التوترات التي تصاعدت بعد زيارة رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي إلى تايوان، خلال أغسطس 2022، والتي اعتبرتها الصين، زيارة استفزازية، وكادت أن تشعل حرباً، لا تُحمد عقباها.
الأفكار الجديدة للدبلوماسية الدولية يجب أن تتجاوز كافة الاستفزازات، حيث إن العالم ما عاد يتسع للمزيد من الضغوطات الخانقة على الشعوب، خاصة بعد أزمة فيروس كورونا، وارتفاع أسعار الطاقة ونقص المخزون الغذائي وشبح التضخم، وحيث يضعف دور الأمم المتحدة، في اللحاق بكافة المشكلات، وعدم تمكنها من السيطرة على المشكلات السياسية إبان حدوثها، وتكتفي بدور دفاعي بعد وقوع الأزمات، ومحاولة إيجاد حلول لها، كدورها في سوريا واليمن وليبيا وغيرها. فمثلاً، وبالأمس أيضاً، بدأت ملامح صراع صيني- روسي غربي حول القطب الشمالي، وهو صراع مصالح سياسية اقتصادية يشبه تكسير العظام، تفجر وبقي في حالة تصاعد لغاية اليوم، ولم تتمكن دبلوماسية الأمم المتحدة التقليدية، في إيجاد أي حل يرضي جميع الأطراف.
بداية أزمة الصراع في القطب الشمالي ظهرت عام 2007 حين أطلقت روسيا غواصتين لزرع علم لها هناك، وطالبت وقتها، في خطاب لها أمام الأمم المتحدة، بأحقيتها في مساحة إضافية تعادل مساحة فرنسا وألمانيا معاً! وعززت قدرة أسطول الشمال وأدخلت إليه أسلحة فتاكة، من بينها الطوربيد بوسيدون ذو القدرات النووية الهائلة، وقامت كندا أيضاً، والتي تعد ثاني أكبر دولة إطلالة على منطقة القطب الشمالي، بإنفاق نحو 7 مليارات دولار لبناء أسطول للدفاع عن مصالحها، أما الولايات المتحدة فقد زادت من بعثاتها العملية والعسكرية وتعزيز علاقاتها مع دول الشمال الأوروبي وسعت لشراء جزيرة غرينلاند، فتحركت الصين وعملت على بناء أول كاسحة جليدية تعمل بالطاقة النووية ووقعت اتفاقيات مع روسيا للتنقيب عن النفط والغاز، في محاولة لخلق تحالف بين الجانبين لمواجهة أي تحالف غربي، ولكن في مارس 2022، قام حلف الناتو بإجراء أكبر تدريبات عسكرية هناك والتي سميت بـ«الاستجابة الباردة».
وعلى وقع الحرب في أوكرانيا قام مجلس القطب الشمالي في يونيو 2022، بتعليق عضوية روسيا، ما حدا بالولايات المتحدة باستثمار ذلك وتعيين سفير متجول لها في القطب الشمالي، فسارع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بإقرار استراتيجية تطوير منطقة القطب الشمالي الروسية، وضمان الأمن القومي حتى عام 2035!
ما حدث في أوكرانيا، وحول تايوان، ويحدث في القطب الشمالي حالياً، حدث ويحدث أيضاً في علاقة إيران بالولايات المتحدة حول الاتفاق النووي، والذي تتدخل إسرائيل لمنعه، بأي صورة، فتزداد حالة التوتر، لدرجة أن تشعر الشعوب في المنطقة أن هناك تهديداً حقيقياً آخر، من نشوب حرب مفاجئة.
ومع غياب الأمم المتحدة وانشغال روسيا والصين، وتناثر الجهود الأوروبية، ومع التردد الأميركي في حسم مسألة العودة للاتفاق النووي، تبقى الدبلوماسية الإماراتية هي الرائدة في وضع أفكار عقلانية جديدة قابلة للتحقيق، وتهدئة الأطراف، والدفع نحو صيغة توافقية، تضمن عدم وقوع الحرب أولاً، وكذلك تضمن السلام في الشرق الأوسط.
مدرسة السياسة والدبلوماسية الإماراتية، التي استندت على إرث عظيم من العلاقات المتينة والراسخة مع الدول الشقيقة والصديقة، ومع دول العالم أجمع، تعمل على قدم وساق، لتطوير أفكار دبلوماسية سباقة في السيطرة على النزاعات والصراعات قبل وقوعها، تعتمد على رؤية فذة لصاحب السمو رئيس الدولة حفظه الله ورعاه، الذي أصبح اليوم، وبكل فخر، رجل السياسة والدبلوماسية الأول، الذي لا يشق له غبار.

* لواء ركن طيار متقاعد