عندما رحل قبل أيام آخر رئيس للاتحاد السوفييتي «ميخائيل جورباتشوف»، كان الكثيرون يعتقدون أنه غادر الدنيا منذ سنوات. فمنذ أن خرج من المسرح السياسي يوم 25 ديسمبر 1991 مستقيلاً من رئاسة الإمبراطورية الحمراء التي انتهت معه، لم يشارك إلا لماماً في الحياة العامة، وقد ذاق مرارة المذلة والإهانة عندما حصد أقل من واحد بالمائة من أصوات الناخبين في الانتخابات الرئاسية المنظمة عام 1996.

لم يكن أحد يعتقد أن الشاب الذي صعد لمركز السلطة من أوساط التنظيمات الشبابية والحزبية عام 1985 بعد انقضاء عهد الحكام العجائز (برجنيف، اندربوف وتشرنينكو) سيغير وجه العالم وتاريخه بعد أربع سنوات حبلى بالأحداث الجسام التي تكللت بانهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفييتي ومعه المنظومة الاشتراكية الدولية.

وعلى الرغم من موجة المراجعات الفكرية والسياسية المتواصلة في الاتحاد السوفييتي بعد العهد الستاليني، لم يكن نقد التجربة الشيوعية يعني بالنسبة لأكثر الإصلاحيين جراءة التكيف التكتيكي والبراغماتي مع الواقع العالمي الجديد في محدداته الاقتصادية والتكنولوجية. في الكتاب الذي نشره جورباتشوف عام 1986 بعنوان «البرسترويكا» (ترجم إلى 32 لغة)، شرح مستفيض لمشروعه الإصلاحي الذي يدور حول هذه المقولة التي تعني باللغة الروسية الإصلاح أو إعادة البناء.

ما كان يهم جورباتشوف هو تجديد الهياكل السياسية والتنظيمية للحزب الحاكم، ومنح العقيدة الشيوعية الرسمية «وجهاً إنسانياً»، ونقل الاتحاد السوفييتي إلى «دولة قانون اشتراكية بآراء متعددة» من خلال السماح بالتيارات المتنوعة والمختلفة داخل النسق الأيديولوجي القائم. ولضمان نجاح هذا المسار، بلور جورباتشوف مصطلح «غلاسنوست» الذي يعني الشفافية والإعلان، أي التعبير الحر والانفتاح الصريح من أجل دعم الإصلاحات المقررة في إطار ما أطلق عليه «التغيير من الأعلى»، بالاستناد إلى الانتلجنسيا المثقفة، بدلاً من التنظيمات العمالية والزراعية التي كانت تعتبر في السابق وقود الثورة والتحول الجذري. كان جورباتشوف يؤمن بالقدرة على ترميم وإصلاح النموذج السوفييتي من الداخل، دون المساس بجوهره الأيديولوجي ونظامه السياسي، ولا شك أنه أخطأ التقدير ولم يكن واعياً بحجم الأزمة في أبعادها الفكرية والمجتمعية العميقة. وإذا كان بعض أسباب فشل مشروعه الإصلاحي راجعة إلى طبيعة الأوضاع السوفييتية الداخلية، فإن للغرب مسؤولية كبرى في هذا الفشل.

طرح جورباتشوف على الدول الأوروبية فكرة «البيت الأوروبي الموسع»، الذي يضم روسيا، فلم يلق تجاوباً حقيقياً حتى بعد أن قبل توحيد ألمانيا وتحرر بلدان أوروبا الشرقية من الهيمنة السوفييتية. وفي لقاء جورباتشوف الشهير بالرئيس الأميركي جورج بوش الأب في مالطا في بداية ديسمبر 1989، حيث تم إعلان نهاية الحرب الباردة، لم تنجز الولايات المتحدة (ومعسكرها الغربي) تعهداتها للاتحاد السوفييتي الذي كان يطمح إلى بناء نظام دولي جديد بديل للصراع القطبي، بما يقتضي تفكيك الحلف الأطلسي ودمج روسيا الجديدة في المنظومة الاقتصادية العالمية.

راهن الغرب على خصم جورباتشوف السياسي الليبرالي بوريس يلتسين أول رئيس لروسيا ما بعد الشيوعية، وإن لم يساعده عملياً في إصلاحاته الكبرى التي حاول فيها استنبات النموذج الغربي سياسياً واقتصادياَ في بيئة عصية على الديمقراطية الليبرالية. قليل هم الروس الذين مسهم اليوم الجزع والأسف على موت جورباتشوف الذي يرمز في متخيلهم الجماعي إلى انهيار الإمبراطورية السوفييتية الكبرى التي كانت عنوان قوتهم وريادتهم العالمية. وقد عبر الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين عن هذا الشعور بقوله «إن تفكك الاتحاد السوفييتي كان أكبر كارثة جبوسياسية في القرن العشرين». ولا شك أن جورباتشوف يتحمل جانباً كبيراً من مسؤولية هذا التفكك الذي خلف معادلة استراتيجية عالمية يحاول الرئيس بوتين من خلال سياساته تغييرها.

في سنة 2019 (الذكرى الثلاثون لسقوط جدار برلين) أصدر جورباتشوف كتابه الأخير «مستقبل العالم الشامل»، مقراً بأخطائه السياسية وسوء تقديره للمعطيات الدولية، دون أن يتخلى عن حماسه لنهاية الحرب الباردة التي أرادها بداية عصر انسجام كامل بين القوى الدولية الكبرى، في حين اعتبرها الغرب انتصاراً له وهزيمة لخصمه. في الكتاب المذكور، أسف ضمني على تفكك الاتحاد السوفييتي، والتزام بالمواقف الوطنية الروسية في البلقان والقوقاز وشرق أوروبا، وقلق من عودة الحرب الباردة بين روسيا والغرب. كان جورباتشوف آخر صانعي عالم ما بعد الحرب الباردة رحيلاً، رغم أنه عاش طويلاً في الظل وعلى الهامش في السنوات الأخيرة..وقد شاهد في أيامه الأخيرة انهيار حلمه في السلام العالمي والانسجام الدولي، إثر اندلاع أولى حروب الصراع الجيوسياسي الجديد على الجبهة الأوكرانية.

*أكاديمي موريتاني