أُعلنت في 30 أغسطس الماضي وفاة ميخائيل جورباتشوف آخر زعيم للاتحاد السوفييتي قبل تفككه في1991، ويدخل القادة التاريخ بسبب ما يرتبط بحكمهم من أحداث فارقة ليس من الضروري أن تكون إيجابية، فقد دخل كل من تشرشل وهتلر التاريخ رغم التناقض الهائل بين سجليهما، أما التقييم الموضوعي للقادة، فيتطلب زمناً طويلاً يمكن المؤرخين من التجرد من تأثير التداعيات المباشرة لسياساتهم بحيث يقتربون أكثر ما يمكن من الموضوعية، ولذلك فإن التقييم الموضوعي لجورباتشوف مازال أمامه وقت طويل قبل أن تكتمل أركانه، ناهيك بأن الخلاف سيبقى قائماً بالتأكيد حول سجله لاعتبارات أيديولوجية، فأنصار التجربة السوفييتية ينزلون به إلى مرتبة العميل أو الخائن، وخصومها يعتبرونه مصلحاً عظيماً، ولذلك فليس أمامنا الآن سوى أن نرصد فكره وممارساته وما أفضى إليه حكمه (1985-1991). ولا أدري ما إذا كانت قد كُتِبَت دراسات عن ملابسات صعوده إلى السلطة، فقد كان يعتبر بعد مسلسل القادة الطاعنين في السن كبريجنيف وأندروبوف وتشيرنينكو من جيل الشباب، وهو ما يعتبره خصومه دليلاً على أن مؤامرة قد أوصلته لهذا المنصب الرفيع كي يقضي على الاتحاد السوفييتي عامداً أو غافلاً، لكن متابعة هذا الصعود ترجح أنه كان طبيعياً بالنظر لأزمة الشيخوخة التي ميزت النظام السوفييتي على الأقل منذ السنوات الأخيرة لحكم بريجنيف، وعلى أية حال فإن المؤكد أنه أتى بتغييرات جذرية في السياسات السوفييتية كان ممكناً أن تفضي لاتحاد سوفييتي جديد يتخلص من أزماته البنيوية، لكن الأمر انتهى به إلى الاختفاء من خريطة العالم، في سابقة هي الأولى من نوعها، وأقصد اختفاء قوة عظمى دون حرب رئيسية، بل إنه كانت توجد مؤشرات على الأقل حتى السبعينيات إلى أن الاتحاد السوفييتي ماض في طريقة للانتصار على الرأسمالية بتحقيقه التوازن الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، ونجاحه في نشر نفوذه في مناطق مهمة في العالم دون التورط في حروب، بل والانتصار في حروب مهمة بالوكالة كالحرب الفيتنامية.
وقد ارتبطت سياسات جورباتشوف الداخلية والخارجية بمصطلحات شهيرة كالبروسترويكا (إعادة البناء) والجلاسنوست (الشفافية)، ويمكن تلخيص سياساته الداخلية في محاولة حقن النظام السوفييتي اقتصادياً وسياسياً بحقنة ليبرالية بإدخال مزيد من الحوافز الفردية اقتصادياً وتفعيل آلية الانتخابات في اختيار المستويات القيادية المختلفة، وهو ما ثبت لاحقاً أنها كانت بمثابة المصل الذي أودى بحياة من أخذه بدلاً من زيادة مناعته، وثمة احتمال في أن يكون التخريب السياسي الخارجي المتعمد قد لعب دوراً في هذا الصدد.
أما على الصعيد الخارجي، فقد قلب جورباتشوف السياسة الخارجية السوفييتية رأساً على عقب بالمبادئ التي اعتمدها لسياسته الخارجية، وهي «عالم واحد أو لا عالم»، وهو مبدأ ألغى التكييف الصراعي للعلاقات الدولية الذي كان سائداً بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي منذ نجاح الثورة البلشفية، وكان منطق جورباتشوف أن العالم ككل يواجه تحديات مشتركة كخطر قيام حرب نووية بالصدفة والأوبئة العالمية ومخاطر تغير المناخ، وهو منطق ثبتت صحته في السنوات الأخيرة كما أظهرت جائحة كورونا مثلاً، كذلك اعتمد مبدأ «توازن المصالح لا توازن القوى»، ومفاده ألا نهاية لسباقات التسلح، ولذلك فالأجدى أن تبحث أطراف الصراعات عن توازن للمصالح بينها يمكنها من التوصل لتسويات، وهو ما حدث بالفعل في بعض الصراعات الإقليمية كما في جنوب القارة الأفريقية، وفشل في الصراعات المعقدة كالصراع العربي-الإسرائيلي، واستطاع جورباتشوف بهذا النهج الجديد أن يحقق اختراقات في مجال الحد من الأسلحة الاستراتيجية، لكن انتهاء حكمه بتفكك الاتحاد السوفييتي لا شك أنه يُحسب عليه، وهو مجال مازال البحث المتعمق فيه مطلوباً.
* أستاذ العلوم السياسية جامعة القاهرة