في زمن الفضاء المتخم بالقنوات الإخبارية، وزحمة التنافس على حوارات الهواء المباشر، ظهرت وظيفة جديدة اسمها «المحلل الإستراتيجي» أو «الخبير في شؤون كذا». ومن دون أي معايير سليمة تسند الوصف المهني يصبح الضيف على الهواء محللاً وخبيراً تتقاذفه المحطات بتوصيات بين معدي الأخبار في المحطات، والمهم تعبئة الهواء بالكلام، فينتشر التضليل بقصد أو من دون قصد لأن «المحلل الخبير» الله يسلمه لا يدقق بما يقول، والمتلقي عموما سيأخذ الكلام على عواهنه فالمتحدث خبير ومحلل.
من ذلك مثلا أني أتابع أحياناً بعض البرامج الحوارية على الفضاء العربي، فيكون أحدهم يتحدث بلغة خطابية متشنجة عن «الغرب» وسياساته ومؤامراته! ثم حين يتم الاستيضاح منه أكثر، يكون جوابه السهل بأنه يقصد أوروبا وأميركا.. هكذا ببساطة، جغرافيا شاسعة على قارتين بينهما محيط شاسع دفعة واحدة يتم حشرهما في كلمة واحدة كمفهوم واحد!
الحقيقة مختلفة تماماً، والغرب ليس واحداً، والمصطلح خاطئ من أساسه، ولا يقدم إلا تضليلاً مستمراً، بعيداً عن الوعي بمفاتيح الفهم بين أوروبا وأميركا، فهما حالتان متباينتان تماماً في العلاقات الدولية، وفي التكوين التاريخي والثقافي والاجتماعي كذلك.
قراءة الحالتين يجب أن تكون بتفاوت، لتضع الخط الفاصل الذي نغفل عنه أحياناً، بين العالمين الجديد والقديم.. إذن، المشكلة تكمن في قراءاتنا نحن، وزاويتنا التي علينا اختيار الرؤية منها. فإما زاوية حرجة وحادة تجعلنا نكرر الوقوع في عثراتنا، أو زاوية منفرجة مفتوحة على الفهم للخروج من دائرة الطباشير التي رسمناها في أذهاننا واستمررنا داخلها بعناد.
العالم الجديد، والذي شكل سبتمبر نيويورك الدامي مفصلاً فيه، اكتشف بعد انهيار البرجين وانكشاف المحيط أن الأطلسي ليس نهاية العالم، واستيقظ الأميركي صباح الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 ليدرك أن الأطلسي قد تلاشى فجأة، لكن اختفاء الأطلسي والصدمة المروعة في انكشافه، لا تشكل عنصر كفاية في تغيير الذهنية الأميركية التي تبلورت كمحصلة لتاريخ طويل له خصوصيته في المنشأ وميزته في التشكل فلا يزال التاريخ كما كان دوماً في الحالة الذهنية الأميركية رديفاً للعدم، وبلا أهمية يمكن البناء عليها، وكما وصف الراحل «محمد حسنين هيكل» العالم الجديد بقوله إن (أميركا كثير من الجغرافيا وقليل من التاريخ)، ونحن هنا نتحدث عن التاريخ بمفهومه الفلسفي كتعاقب أيديولوجي تراكمي وليس تتابعاً اعتباطياً للأحداث.
أوروبا.. حالة مغايرة ولا أقول معاكسة، فالتاريخ بالمفهوم الفلسفي ذاته يشكل جزءاً حيوياً من الذاكرة الأوروبية، ويبني عليه الأوروبيون من دون الاتكاء على الذاكرة في حالة سكونها، بل هو صيرورة مستمرة في فعل حركة تطور. ومن هنا يكمن معنى «الفهم» الأوروبي أحياناً للذهنية العربية المرتبكة جداً بالتاريخ، والمتكئة عليه كحالة سكونية معطلة حتى غدت الذاكرة الجمعية نمط حياة ومعياراً للقياس في ما لا يمكن القياس به أو عليه.
الأميركي العادي جداً، يذهب يوم الانتخابات ليقترع على أحد الحزبين، والسياسة لديه تكمن في حجم الفواتير المكدسة في صندوق بريده، والأوروبي، يقترع وينتخب ويوجه سياسة مرشحيه حسب توجه رأي عام قادر على التأثير، وتلك مفاتيح فهم، تحتاج قراءة أكثر وعياً في العمق.
* كاتب أردني مقيم في بلجيكا