هل تتذكرون حروب ترامب التجارية؟ في الواقع، ما زالت الكثير من الرسوم الجمركية التي فرضها دونالد ترامب قائمة، لأسباب أظن أنها تتعلق بعدم رغبة «الديمقراطيين» في منح «الجمهوريين» ذريعةً لاتهام الإدارة الحالية بالتهاون والتساهل مع الصين أكثر مما تتعلق باعتقاد جو بايدن بأنها مبرَّرة. لكن في كل الأحوال، باتت قضايا مثل التضخم والحرب في أوكرانيا تطغى على قضايا التجارة اليوم. 
غير أن ما لا يُنتبه إليه في الأثناء هو أن بعضاً مما أراده ترامب وفشل في تحقيقه، أي عودة التصنيع إلى الولايات المتحدة، ربما يكون قد بدأ يتحقق في عهد خلفه. والشاهد تقرير حديث لـ«بلومبيرج» وجد ارتفاعاً كبيراً خلال الآونة الأخيرة في تداول كلمات تمتح جميعُها من قاموس إعادة توطين العمليات التجارية التي نُقلت إلى الخارج في وقت سابق. وكلها مؤشرات على مخططات للإنتاج في الولايات المتحدة (أو ربما بلدان قريبة) بدلاً من إنتاجها في آسيا. 
والواقع أنه كان هناك دائماً سيل من التقارير الإخبارية، المدعومة ببيانات ضعيفة، تفيد بأن الشركات تقوم حقاً ببناء منشآت تصنيع جديدة في الولايات المتحدة وبلدان أخرى ذات دخل مرتفع. وعليه، فإنه يمكننا رؤية مؤشرات مبكرة على انسحاب جزئي من العولمة. وهذا ليس شيئاً جيداً بالضرورة، لكنه موضوع ليوم آخر. واليوم، لنتحدث عن أسباب ذلك. 
أول شيء ينبغي أن تعرفه هو أننا إذا رأينا بعض التراجع في التجارة العالمية خلال السنوات المقبلة، فإنها لن تكون المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك. والواقع أنه من المألوف افتراض أن العالم يزداد تقلصاً على الدوام، وأن ازدياد الاعتماد الدولي المتبادل اتجاهٌ حتمي لا مفر منه. غير أن التاريخ يشير إلى خلاف ذلك.
والحقيقة أن الاقتصاد العالمي كان مندمجاً على نحو مفاجئ عشيةَ الحرب العالمية الأولى. ففي كتاب «العواقب الاقتصادية للسلام»، كتب عالم الاقتصاد البريطاني جون مينارد كينز عن «الحلقة الاستثنائية» التي قال إنها انتهت في أغسطس 1914، وهي فترة «كان يستطيع فيها ساكن لندن أن يطلب عبر الهاتف، وهو يرتشف شاي الصباح على سريره، منتجات العالم المختلفة، بالكمية التي يراها مناسبةً، وأن يتوقع على نحو معقول توصيلها مبكراً إلى باب بيته». 
لكن هذه الحقبة الأولى من العولمة سارت في الاتجاه المعاكس بعد الحرب العالمية الأولى، إذ كان هناك تراجع كبير في التجارة بين بداية الحرب العالمية الأولى ومرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. واستغرق التعافي بعض الوقت، وبحلول أواخر الثمانينيات بالكاد كانت التجارة أكبر حجماً، بعلاقة مع الاقتصاد العالمي، مما كانت عليه في نهاية «الحقبة الإدواردية» (نسبة إلى عهد الملك إدوارد السابع، أي الفترة الممتدة من 1901 إلى بداية الحرب العالمية الأولى). 
غير أن ما تلا ذلك كان بالفعل قفزةً غير مسبوقة في التجارة، يشار إليها أحيانا بـ«العولمة المفرطة». وكانت تلك هي الفترة التي يصفها كتاب زميلي توماس فريدمان الشهير «العالم مسطّح»، الذي نشر أول مرة في عام 2005، حيث توقع الكثيرون استمرار نمو التجارة إلى ما لا نهاية.
غير أن العولمة المفرطة توقفت في عام 2008، وظلت التجارة الدولية كحصة من الاقتصاد العالمي في مستوى ثابت تقريباً لـ14 عاماً. وهناك ثلاثة أسباب تبعث على الاعتقاد بأن العولمة ستتراجع خلال السنوات المقبلة، وإن ليس بالدرجة التي تراجعت بها في سنوات ما بين الحربين. السبب الأول هو صعود الروبوتات، والمقصود به التكنولوجيا الموفِّرة للعمالة بشكل عام. واللافت أن الناس كثيراً ما يفترضون بأن التحسن في تكنولوجيا النقل يعني بالضرورة مزيداً من التجارة. لكن هذا لا يعتبر صحيحاً إلا إذا كان التقدم في النقل أسرع من التقدم في تكنولوجيا الإنتاج. 
وبالفعل، فالشركات التي تتحدث عن إعادة نقل عمليات الإنتاج غالباً ما تحتج بأن التقنيات الحديثة تسمح لها، في بعض الحالات، بالإنتاج بعدد قليل نسبياً من العمال، وفي هذه الحالة يكون التوفير في الكلفة نتيجة التعهيد إلى بلدان منخفضة الأجور ضئيلاً وفي الحد الأدنى، وأقل من المزايا اللوجستية للإنتاج في البلد أو في أماكن قريبة منه. 
السبب الثاني لتراجع العولمة، هو الإدراك المتزايد بأن العالم مكان خطير. فمن الخطر أن تسمح لنفسك بالاعتماد اقتصادياً على بلدان ذات أنظمة قد تعمد فجأة إلى قطع منتجاتها عنك. واليوم، أخذت أوروبا تدرك أن الاعتماد على الغاز الطبيعي الروسي كان خطأ فادحاً. الصين لم تنخرط في ابتزاز اقتصادي، لكن كلاً من قطع الغاز وإغلاقات كوفيد-19 جعلا الشركات تشعر بالقلق بشأن الاعتماد على موردين خارجيين. 
ثالثاً وأخيراً، علينا أن نعترف بأنه الآن وقد أخذت أميركا أخيراً تفعل شيئاً حيال تغير المناخ، فإن بعض السياسات التي تقوم بإدخالها ستكون، من الناحية العملية، حمائيةً، على الأقل بشكل معتدل. ولعل أبرز مثال على ذلك هو الائتمان الضريبي الجديد لمشتريات المركبات الكهربائية، الذي لن يطبّق إلا على المركبات التي تجمّع في أميركا الشمالية. 
لماذا؟ الجواب هو: السياسة. وقد تكون السياسة من أجل قضية جيدة، لكنها تظل سياسة. فلا شك أن الحصول على إجراءات من أجل المناخ كان عملاً سياسياً شاقاً، والبعض منا ما زال غير مصدِّق حقيقة أنه قد تحقق بالفعل. لكن من أجل تسويقه، كان على «الديمقراطيين» تصويره باعتباره برنامجاً سيخلق وظائف، ما يعني تضمينه بنوداً تشترط «شراء المنتجات الأميركية». 
هل تمثل هذه البنود خرقاً لاتفاقيات التجارة الحالية؟ الحقيقة أن الوفاء بنص الاتفاقيات التجارية أقل أهمية من إنقاذ الكوكب. وإذا كان هذا هو ما تقتضيه معالجة معضلة الانبعاثات الكربونية، فليكن. لكن بالعودة إلى فكرتي الأصلية: فإنه يبدو بالفعل أننا ربما نكون مقبلين على رؤية بعض التراجع عن العولمة. 

ينشر بترتيب خاص مع «خدمة نيويورك تايمز»

Canonical URL: https://www.nytimes.com/2022/09/06/opinion/the-world-is-getting-less-flat.html