كنت وبعض الصحفيين العرب في واشنطن العاصمة، تماماً بعد عشرة أيام من تفجيرات سبتمبر الدامية، وكان الدخان لا يزال يتصاعد من أنقاض مباني التوأمين في نيويورك، ومن البنتاغون في واشنطن.
وضمن لقاءات مبرمجة حينها، التقينا بالدبلوماسي السابق في الشرق الأوسط، السناتور آنذاك، جيري فريمان، وكان يحدثنا بحكمة وهدوء في مكتبه. ومن بين كل حديثه استرعت انتباهي عبارةٌ قالها، ودونتُها فوراً. وفي كل ذكرى 11 سبتمبر أسترجعها في ذاكرتي، حيث قال: «في صباح الحادي عشر من سبتمبر، استيقظ الأميركيون ليجدوا أن المحيط الأطلسي قد اختفى مرةً واحدةً».
حددت تلك العبارة الموجزة والمكثفة حينها اتجاهاً نحو أجوبة محتملة لأسئلة مطروحة كثيرة، من أهمها كان السؤال الذي طرحه الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش: «لماذا يكرهوننا؟»، أو طروحاته في ما بعد حول «إما معنا أو ضدنا».
سؤال الرئيس الأسبق كان في محله أمام محيط يعزل العالم الجديد عن العالم القديم، عالم جديد وبقي جديداً في كل مكوناته منذ رسو «سانتا ماريا» (سفينة كولومبوس) على سواحل تلك القارة البعيدة عن عالمنا القديم.
كل ما حدث بعد ذلك، كان زحزحةً قارية متسارعة بين عالمين، قد اختفى بينهما المحيط، ولم يكن الأميركيون وحدهم من يكتشفون زوال ذلك البحر الضخم العازل، بل اكتشف العالم العربي أيضاً، مع كل العالم القديم، أن البحار كلها لم تعد عوازل طبيعية، وكذلك الجبال والكهوف.
في الطرف الآخر من الأطلسي الذي اختفى فجأة، كانت هناك ردود فعل أكثر غرابةً، ولو تجاوزنا تلك الاحتفالات المبتهجة بالعمل الإرهابي الأكبر من نوعه، أو قفزنا باستغفال فوق نظريات المؤامرة العجيبة والفانتيازية، التي استهدفت تجميع كل اللامنطق من أجل ترسيخ فكرة المؤامرة، فإن التساؤلات هناك أيضاً تكشف جهلاً بالعالَم الجديد الذي اختفى الأطلسي بيننا وبينه.
بحثاً عن مفاتيح فهم العالَم الجديد في الولايات المتحدة الأميركية، كتب الراحل الكبير محمد حسنين هيكل سلسلة من مقالات ما بعد سبتمبر الدامي، وكان تعريفه للولايات المتحدة في أحد أهم مقالاته أن أميركا هي «كثير من الجغرافيا وقليل من التاريخ».
ما ذهب إليه هيكل عميق على بساطته، وهو يتطلب فهماً لا انتقاداً أو مواجهة رافضة لهذا الواقع. فتلك الميزة التي وصف بها الولايات المتحدة هي نقطة قوتها الذاتية التي صنعتها في الداخل، وهي أيضاً نقطة ضعفها التي جعلتها (قبل 11 سبتمبر وبعده) تجهل الخارج عن محيطها (أو محيطيها).
في كامب ديفيد مثلاً، قرر الرئيس الأسبق بيل كلينتون، ذات وقت متأخر من الليل، أن يعرض على الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات فكرةَ إنشاء «قدس جديدة» في أبوديس، وهو ما قابله عرفات بعصبية مفرطة تتماهى مع رجل قادم من عالم معجون بالتاريخ.
كلينتون، حسب المرويات حول تلك القمة الثلاثية (كلينتون -باراك -عرفات)، رد بتجاهل عميق لمعنى التاريخ عند الشرق أوسطيين على عصبية عرفات، بالقول إنه لا يفهم تلك العصبية، ففي أميركا وحدها أكثر من «جيروزالم»!
حسب وجهة نظر موضوعية، ومن خارج الصندوق بين العالمين، القديم والجديد، لا أحد مخطئ.. القصة كلها في مفاتيح الفهم..
فهل فعلاً اختفى المحيط الأطلسي؟

*كاتب أردني مقيم في بلجيكا