هناك اندفاعةٌ محمودةٌ لاستعادة الفلسفة تدريساً وتأليفاً في التعليم الثانوي كما في الجامعات. والحجة في ذلك أنها تعلِّم التفكير النقديَّ، وتفتح آفاق العقل على احتمالات وخيارات ما كانت لتعرض له، لولا هذا العرض المبسوط للتيارات الفكرية منذ القِدم. والذي يجري الاهتمام به بالإضافة إلى تاريخ الفلسفة: مباحث القيم، والتأويليات التي تعيد التواصل بين الفلسفة واللغة الدينية، وأخلاقيات الحق والخير والعدالة والسلام.

ومنذ مدةٍ قريبةٍ أقرت جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية بكالوريوس الفلسفة والأخلاق. كما أنّ إدارة البحث العلمي بالجامعة تُعِدُّ لمؤتمرٍ حول الفلسفة والأخلاق تُثار فيه من جانب المشاركين المختصين قضايا وأسئلة الزمان والعصر والواقع للجهات التي ذكرناها.  

  لقد ألحَّ عليَّ، مع استتباب الأمر لتدريس الفلسفة، التفكير في إعادة النظر في القصور السائد للكتابة والتأليف في الحضارة الإسلامية والثقافة الإسلامية وتاريخ الفكر في الإسلام. وهي عناوين مختلفة لمضمونٍ واحدٍ يجري تدريسه في السنوات الأولى بالجامعات العربية والإسلامية. وكان النهضويون يسمُّون هذا المساق «المدنية الإسلامية»، وقد استولت عليهم من خلاله مقولة انحطاط الألف عام، يلتمسون عِلَلها، ويتطلعون إلى «التمدن الأوروبي» باعتبار وقائعه شروطاً لاستعادة المدنية الإسلامية. ثم سمَّى أحمد زكي باشا محاضراتِه في الجامعة المصرية الأهلية الجديدة (1908-1909): الحضارة الإسلامية. وقد دخلت على هذه التأملات فسحة نهضوية عندما دخلت على الباحثين بتأثير الاستشراق مسألة التاريخ الثقافي الذي ارتبط بمشروع الذات الحضارية، من خلال التأريخ للحياة العقلية والفكرية في أزمنة الإسلام الكلاسيكية، ونشر مخطوطاتها ونصوصها، كما صنع الأوروبيون هويتهم الحضارية بالعمل على التراث اليوناني والروماني.

كتب جرجي زيدان «تاريخ التمدن الإسلامي» (1913-1914)، ثم كتب أحمد أمين عبر عشرين عاماً «فجر الإسلام» و«ضحى الإسلام»، وكتب طه حسين وتلميذه شوقي ضيف تاريخ الحياة الأدبية.. وجاء معهم وبعدهم على المنوال نفسه عديدون في المشرق والمغرب.

    بيد أنّ التحولات المنهجية وظروف الحرب الباردة الثقافية بين الخمسينيات والسبعينيات من القرن الماضي غيَّرت مسارَ التفكير في مسائل شروط المدنية أو الحضارة والتاريخ الثقافي إلى أطروحةٍ ممتدةٍ حافلة بالقطائع والانسدادات تحت عنوان «الثقافة الإسلامية»، صارت مقرراً بالجامعات خلال أربعة عقودٍ وأكثر.  

  تبدو القطيعة الأولى في سردية الثقافة بالقول بانبتات دين الإسلام وثقافته وحضارته عما قبله من دياناتٍ وحضارات. فَرَدّاً على أطروحات استعارة القرآن والإسلام مما بين يديهما وقبلهما، يقال ويُكتب أنه لا علاقة وثيقة بين الدعوة المحمدية وديانتي أهل الكتاب. أما القطيعة الثانية في سردية الثقافة الإسلامية، وهي التي يتشارك فيها الإسلاميون مع المستشرقين، فتبدو كما يقال في الفتور الثقافي بعد القرن الرابع الهجري، والذي تحول إلى انحطاطٍ لم يحاول المسلمون الخروج منه حتى ما بعد منتصف القرن التاسع عشر الميلادي! والقطيعة الثالثة رغبوية إذا صحَّ التعبير، فعندما فشل النهضويون في الإخراج من السيطرة الغربية، حسب هذا التصور، تصاعدت حركةٌ ثقافيةٌ وفكرية ما تزال مستمرة ضد «الغزو الثقافي»!  

  إنّ التصور الآخر المأزوم في الثقافة والفكر يبدو في التوتر الدائم المفتَرَض بين الدين والدولة عبر العصور. فبعد الراشدين ساد «مُلْكٌ عضوض». السلطاتُ دائماً متَّهَمة بمحاولات الخروج على الدين، والعلماء والمعارضون الثوريون يناضلون لإخراج السلطة من دهريتها واستعادتها للإسلام! وهذا التصور خطلٌ محض. إذ لماذا تريد الدول إخفات صوت الدين وهي تحكم بالدين وباسم الدين! وهذه الحقيقة وحدها تقتضي إعادة كتابة تاريخ علائق الدين والدولة في الثقافة والفكر والزمان والمكان.

    يمكن لمساق الثقافة الإسلامية، مكتوباً بمنهج تاريخي تواصلي، أن يُخرج القطائع والانسدادات والتوترات، وأن يكشف بالبحث المستنير عن تصورٍ آخر لتاريخنا الثقافي وللثقافة الإسلامية بعامة من دون انبتاتات وبدون قطائع وتوترات، صنعت أكثرُها توتراتِ الوعي المأزوم وأيديولوجيات النضال ضد العالم المعاصر وضد الدولة الوطنية.

*أستاذ الدراسات الإسلامية- جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية