في العدد الأخير من مجلة «فورين افيرز» العريقة (سبتمبر- أكتوبر 2022) يعالج المفكر والسياسي الأميركي المعروف «ريتشارد هاس»، رئيس مجلس الشؤون الخارجية، تحديات السياسة الخارجية لبلاده في مرحلة تشهد تفاقمَ أزماتِ النظام الدولي وتراجع النموذج السياسي الأميركي. في مقاله الموسع الذي حمل عنوان «عشرية خطيرة: السياسة الخارجية لعالم متأزم»، يذهب «هاس» إلى أن التحديات التي تواجه السياسةَ الخارجية الأميركية الحالية تتركز في ثلاث معطيات محورية هي: انهيار توازنات النظام الدولي المتولد عن نهاية الحرب الباردة، وبروز تحديات كونية غير مسبوقة تتجسد في الأزمات الصحية والمناخية وانتشار أسلحة الدمار الشامل، وتصدع الوضع الداخلي في الدولة العظمى التي صاغت وصانت النظام الدولي خلال سبعين عاماً الأخيرة (الولايات المتحدة الأميركية).

وبخصوص النقطة الأولى، يشير هاس إلى ثلاث ظواهر خطيرة تندرج في إطار المعادلة الجيوسياسية التقليدية هي: عودة التنافس بين القوى الدولية الكبرى، وبروز ميول إمبراطورية جديدة لدى بعض الدول، واستفحال الصراع حول الموارد الطبيعية والغذائية في العالم. ما يهم هاس في هذا الخصوص هو سياسات التدخل الروسي في المناطق الداخلة في نطاق الإمبراطورية السوفييتية السابقة، بما «يهدد وضع الأمن والاستقرار في القارة الأوربية». ومن هذا المنظور، تشكل الحربُ الأوكرانية الحالية نقطةَ تحول حاسم في إدارة النظام الدولي بما تمثله من تراجع عن مبدأ احترام سيادة الدول ضمن حيزها الإقليمي الشرعي المعترف به عالمياً.

وكما أن المحاولات التي بذلتها الولاياتُ المتحدة خلال ثلاثين عاماً الأخيرة لدمج روسيا في منظومة الأمن الدولي فشلت كلياً، فإن رهانَها على استيعاب الصين في المنظومة الاقتصادية العالمية لم يفض إلى النتائج المتوخاة في المستوى الاستراتيجي. وهكذا تجد الولاياتُ المتحدة نفسَها لأول مرة خارج الديبلوماسية الثلاثية التي يتوقف عليها أمنُ العالَم واستقراره. لقد انعكست هذه الأزمات الجيوسياسية على سبل مواجهة التحديات الكونية الجديدة التي تتطلب شراكةً عالمية كاملة، مثل أزمة كورونا الأخيرة التي ذهب ضحيتها ما بين 15 و18 مليون إنسان، والاحتباس الحراري الذي أصبح يهدد وجود البشر على هذا الكوكب، وسباق أسلحة الدمار الشامل الذي لم يعد من الممكن التحكم فيه بالوسائل التقليدية.

إلا أن هاس يعتقد أن أخطر هذه المعطيات هو تراجع النموذج الأميركي في مقوماته المركزية، من ديمقراطية مستقرة وتداول سلمي على السلطة وسياسة هجرة ناجحة وانسجام اجتماعي كامل.

ما تعيشه أميركا حالياً هو تصاعد العنف السياسي واستفحال التناقضات الاجتماعية وانحسار ثقة المواطن في المؤسسات العمومية، بما يشل القرار الاستراتيجي الأميركي في عالم مضطرب يحتاج إلى الدور المحوري للولايات المتحدة. ومن هنا يخلص هاس إلى اقتراح توجهات جديدة للسياسة الخارجية الأميركية تستند إلى ثلاث محاور هي: التعددية الضيقة التي تقوم على المصالح وحفظ الأمن والاستقرار بدلا من نشر القيم والأيديولوجيات، والشراكات الواقعية التي تقبل اختلاف النماذج والخيارات والنظم السياسية، وتوطيد الوحدة الداخلية الأميركية وتحصينها من التصدع والانقسام لصالح الاستقرار العالمي.

من الواضح أن أطروحة هاس التي لخصناها في هذا الحيز تندرج في إطار الحوار الاستراتيجي الأميركي الداخلي حول أزمات النظام العالمي الراهن. فهي في أحد وجوهها رد صريح على مقاربة اليمين الشعبوي الذي يتبنَّى تحرر الولايات المتحدة من التزاماتها العالمية ومن شراكاتها التقليدية التي أصبحت أعباؤها عاليةً دون نتيجة ملموسة، كما أنها رد على المقاربة الليبرالية اليسارية التي تتبنى منظوراً قيمياً مؤدلجاً للسياسة الخارجية الأميركية.

ما يريد هاس أن يقوله هو أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تنسحب من نظام عالمي كانت هي الطرف الأول المسؤول عن صياغته وضبطه ومصالحها الحيوية مرتبطة به عضوياً، إلا أنها في الوقت نفسه تزيد من احتمالات عزلتها ورفضها في حال حاولت فرض نموذجها السياسي والحضاري خارج حدودها وعن طريق الضغط والعنف كما كان الشأن غالباً بعد نهاية الحرب الباردة. إن هذه النغمة الواقعية العقلانية هي ما يستوقفنا في أطروحة ريتشارد هاس في ما وراء المواقف التي عبّرت عنها في سياق الصراع الدولي الجديد.

*أكاديمي موريتاني