إن مسار العقل، ومسار الوعي الذي يحتضن عوالم الفكر الإنساني، لا ينفك يهرول متزامناً من امتداد خط «التراث» الذي يتعلق به تعلق الجنين بحبله السري، ليستمد منه نسغ الحياة، ويستخلص منه الصافي بلا شوائب أو معكرات.

إن المضمون الأعم للتراث، أي «الموروث الثقافي والفكري والديني والأدبي والفني»، كما يراه محمد عابد الجابري، وبلا ريب، انطوى في جنباته العديدُ من الزوايا البارزة، من تراث بمعناه المشير للتراث الإسلامي (مصادر التشريع المقدس)، وتراث مفاهيمي سلوكي ذي ثقل اجتماعي متمثل في العادات والتقاليد، بالإضافة إلى الصورة الكبرى التي تضم كل ذلك في إطار واسع تحت مسمى «تراث إسلامي» ككل. وفي ضوء ذلك، امتدت غمامة معتمة على الفكر العربي بشكل خاص، والإنساني بشكل عام، لم تنجل بعد، قوامها إشكاليات متفاقمة في فهم وقراءة التراث، كاشفة عن أنيابها «المخيفة» لإنسان وجد نفسَه في قلب تغيرات سريعة وعاصفة هزت العديد من قضايا «الفهم» الإنساني عبر التاريخ، في محاولة للوصول إلى ما يسميه محمد أركون «السيرورةَ الاجتماعية لتشكل التراث».

وهذا علماً بأن «الإسلام في التاريخ، وليس خارج التاريخ»، وهي مقولة لأركون يؤسس عليها الكثير من استنتاجاته حول التراث وموقعه ومصيره ومآله. وبالإمعان في التأرجح الفكري حول ما يجري داخل مضمار التراث، تبرز العديد من التساؤلات التي تحتاج إجابات شافية وكافية حول دور المعايير والاعتبارات التراثية في جسد أمة دون أخرى، أو ديانة دون غيرها.

وهذا ما لم يعد مستساغاً، ليس لسبب متعلق بقصور آني، بل لانكشافات وانهيارات كانت بالأساس قابعة في الموروث الفكري الذي تلتقمه المجتمعات دفعةً واحدةً، دون التأني لتفحّص سلامته. ولهذا نجد أن العديد من المصطلحات، مثل «النهضة» و«الحضارة» و«التراث».. إلخ، تقتصر -دون وجه حق - على مجتمعات بشرية بعينها، ويُسحب بساطُها من أسفل مجتمعات أخرى. وفي ذلك إشارة إلى ضرورة تيسير سبل «التناول الفكري» و«الإشباع المعرفي» و«الإثراء الثقافي».. لبيان أن الحداثة لا تعقد رباطها على أساس تمييزي عنصري أو قومي أو ديني، دون اتكائها المتين على مواقف معرفية وجودية للإنسان، لا سيما أن مصطلح التراث، كما يراه الدكتور سعيد بنسعيد، «يُستعمل في خطابنا المعاصر استعمالاً نهضوياً، ويربط النهضة بالغربة في وعي الذات، وخاصة باعتباره نوعاً من ميكانيزمات الدفاع عن الذات، ولذا فإن التراث بالنسبة للنهضة ولفكر النهضة، حتى الآن، يلعب دوراً إيجابياً».

ويقودنا السياق ذاته إلى استقراء ما وضعه الكاتبُ زهير توفيق، مكثَّفاً، في مقدمة مؤلَّفه الممحِّص لإشكالية التراث في الفكر العربي، والتي يشير فيها إلى ما شاب «كافة» القرارات متنوعة الاتجاه، والحمولة المعرفية، والأيديولوجية، من أخطاء جعلت منها قراءات برجماتية فاشلة، تمحورت غايتها في توظيف موضوع لصالح موضوع آخر، كتوظيف التراث في الحداثة، أو الحداثة في التراث.

ولدى تقليب صفحات التراث نرى أنه ليس من السهل الحكم على ماهيته، والجلوس على رأس هرمه دون السماح لأي «دماغ» بالاقتراب منه، لا سيما أن التعدد التراثي، أي وجود «تراثات في كل تراث»، لعبَ دوراً حاسماً في اعتماد ضرورة الاستمرارية النقدية والتقييمية لمضامين التراث نفسه.

فالتراث الإسلامي -مثلاً- امتلأت حقيبته بالاتجاهات والانقسامات والافتراقات، الأمر الذي يربك توليد الفكرة، ويشل القدرة على بلورة استنتاجات حازمة وحاسمة، لا سيما أن استخدام «التراث» اتخذ في تحوراته طابعاً دينياً وسياسياً وتطويعياً للأفكار والتوجهات البشرية. إن مفاهيم ودلالات التراث المنبثقة من سياقها الحقيقي، تمثل نداءً حيوياً يصبو للالتفات نحو وليده الجديد المفعم بالحياة والفضول «البنّاء»، للانفتاح والتعارف والتشارك مع الآخر، بعيداً عن مخاطر المتاهات المتحجرة، و«زنازين» «إعادة التدوير» التي تنتج الهدرَ عوضاً عن البذل.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة