انتفضت الشعوب ضد مستعمريها في حروب التحرر الوطني وضد قادتها المستبدين، لكنها السابقة الأولى في تقديري لانتفاضة شعبية من المُودِعين في المصارف من أجل تحرير ودائعهم. و«تحرير الودائع» هو التعبير الذي استخدمه المودعون لوصف ما يقومون به بعد أن وصل بهم اليأسُ منتهاه من استرداد ودائعهم. وهي انتفاضة تعكس بصدق عمق الأزمة التي يمر بها لبنان، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. فقد أدت الأزمة الاقتصادية الطاحنة في لبنان، مقرونةً بدرجة هائلة من الفساد الذي طال النظام المصرفي، والعجز السياسي نتيجة نظام المحاصصة الطائفية الذي أُسس عليه النظام اللبناني أصلاً، إلى هذه الأزمة التي لا يتخيل الكثيرون مدى فداحة أبعادها. فقد وصل الأمر إلى حرمان صغار المودِعين ومتوسطيهم من السحب من ودائعهم بالبنوك إلا بنسب ضئيلة لا تكاد تكفي احتياجاتهم اليومية، وبعمولات باهظة ينطبق عليها وصف السرقة بسهولة. 

وعندما أقول صغار المودعين ومتوسطيهم، فلأن كبارهم تمكنوا من تهريب أموالهم للخارج بآليات الفساد المستشري بدرجة تفوق الخيال. فهذه الانتفاضة إذن تمثل للمشاركين فيها مسألةَ حياة أو موت في بلد صارت فيه بعض المرتبات لا تشتري سوى صفيحة بنزين، وكأن لبنان العزيز كانت تنقصه المؤشرات التي تؤكد فشل الدولة فيه. إذا كان من خصائص الدولة احتكار العنف، فإن القدرة على توظيف العنف في لبنان بيد الكثيرين، بل إن أقوى التنظيمات المسلحة في لبنان تَفُوق قوتُه قوةَ الجيش اللبناني بكثير، ناهيك بأنه يجاهر بولاءاته الخارجية ويستقل بسياسة خارجية خاصة به. وإذا كانت التنظيمات المسلحة في الدول تكون عادة خارجة على سلطتها، فإنها في لبنان موجودة في مؤسسات الدولة وقادرة على شلها وقتَ اللزوم. 

وكذلك فإن نظام «المحاصصة الطائفية» الذي أُسس عليه النظام اللبناني، وكان يُضرَبُ به المثلُ على ما يُسَمى «الديمقراطية التوافقية»، قد أثبت عقمه وعجزه، بدليل حالات الفراغ السياسي المتكررة في مناصب عليا وصولا لمنصب رئيس الجمهورية، والعجز المستدام عن الاتفاق على التشكيلات الوزارية. وقد وصلت أزمات هذا النظام حد الاحتراب الأهلي غير مرة، أخطرها كانت الحرب الأهلية التي دامت من منتصف سبعينيات القرن الماضي إلى نهاية ثمانينياته دون أن تُحدِث تغييراً يُذكر في النظام!
غير أن الأزمةَ الراهنةَ ليست جديدةً من حيث موضوعها، أي استرداد الودائع، فحسب وإنما لأنها أيضاً ليست بالأزمة الطائفية، رغم أن بعض المصارف ذو طابع طائفي، لكن الفشل والفساد طالا جميع صغار المودعين ومتوسطيهم من كل الطوائف. وهي، أي الأزمة الحالية، لن تتحول إلى حرب أهلية، لأن المشاركين فيها من المسالمين الذين لا يملكون القدرةَ على صناعة الحرب، لكنها بالتأكيد يمكن أن تتطور إلى فوضى عارمة تُلحق مزيداً من الأضرار بالنظام المصرفي الفاشل، وتُضعف أكثر قدرته على الوفاء بحقوق عملائه، ناهيك عن عدم العدالة التي تنطوي عليها عملية أخذ الحقوق بالقوة، لأن الأقوى سيأخذ الأكثر. وهو وضع يزيد الأمور تعقيداً، لاسيما أنه من المستحيل الاستجابة لمطالب المودعين كافةً، إذ من المعلوم أن أقوى المصارف لا يمكنه الاستجابة لمطالب كل مودعيه باسترداد أموالهم كاملةً، لأن المصارف لا تحتفظ بكل هذه الأموال وإنما توظف نسبة آمنة منها وفقاً لمعدلات السحب المعتادة من المودعين، فإذا طالب الجميع بأموالهم في اللحظة نفسها نتيجة غياب الثقة في النظام المصرفي يكون انهياره حتمياً، ويحتاج الأمر لرسالة طمأنة من الدولة للمودعين بأن حقوقهم لا يمكن أن تضيع، مع وضع خطة واضحة لإعادة الحقوق لأصحابها بالتدريج. فلا طريق سوى ذلك، لكن الدولة في لبنان غائبة، وكذلك الثقة فيها.. فأين المفر من المصير المؤلم؟!

*أستاذ العلوم السياسية - جامعة القاهرة