ذكرنا في مقال سابق بأن الروس يقفون على مفترق، وأمامهم ثلاثة مسارات، وتحدثنا عن المسار الأول. أما المسار الثاني، فيقود إلى الوحدة الأوروبية الشاملة والجامعة والمسيطرة التي قد تشمل ضمنها روسيا. ورغم أن ذلك أمر مستبعد وفقاً للظروف القائمة حالياً في أوكرانيا وموقف الاتحاد الأوروبي من روسيا، إلا أن تداعيات انهيار حلف وارسو السابق ونهاية الشيوعية في روسيا ودول شرق أوروبا خلقت أوضاعاً - وإن كانت هشَّة - للتفاهم والتحالف في وقت ما وفقاً لخطوط من محور باريس - برلين - موسكو. إن ظروف مساعدة روابط تقليدية وتقارباً جغرافياً ومصالح غربية في الأسواق الأوروبية الشرقية، ومن ضمنها أسواق روسيا الضخمة والممتدة والقادرة على الشراء، وأسواق للمواد الخام التي يحتاجها الغرب الأوروبي، واحتياجات في الشرق الأوروبي إلى التكنولوجيا الأوروبية الغربية وإلى رؤوس الأموال الاستثمارية.
وهذه المعطيات الموضوعية المتعددة الجوانب جعلت الدهماء الروسية في حيرة من أمرها تجاه مصالح بلادها: فهل تقبل بالأوضاع كما هي قائمة وتتجه غرباً وتجعل روسيا تحقق مصالحها كقطر ثانوي، أم تتمسك بالتراث السوفييتي السابق وبكون روسيا قوة عظمى ويجب أن يتم التعامل معها على هذا الأساس؟
الحقيقة التي تجهلها الكثير من الأمم عن الشعب الروسي، ومن ضمنها شعوب عدد من الدول العربية، خاصة نحن في دول الخليج العربي، هي أن الحس الوطني - القومي لديه قوي جداً، لذلك فإن عوائق جدية يتم الشعور بها لدى عامة الروس تجعلها تشعر بقوة بالهوية الروسية الخاصة التي تفرق كثيراً عن هوية الشعوب الأوروبية الأخرى شرقاً وغرباً.
لذلك، فإن المخاوف الكامنة لدى الروس نتيجة لأحداث سنوات 1914 و1941 الجسام لم تختف تماماً. وعليه، فإن من الأمور المدركة ذات الدلالات الخاصة لديهم أن أوروبا الغربية لن تقوم بالتضحية والمخاطرة بوحدتها وتماسكها ومصالحها الحيوية من أجل سواد عيونهم، فالاتحاد الأوروبي لن يقوم بأي حال من الأحوال بطمس نتائج عملية الدمج الأوروبية الطويلة ضمن بنية جديدة غير متبلورة تتم المناداة بها لكي تقوم بين القارات الثلاث أوروبا وآسيا وشمال أميركا.
والأمر الأكثر أهمية هو حقيقة أن الشرق الأوروبي بمن فيه روسيا يكتشف بالتدريج أنه وفقاً للطريقة الأوروبية الغربية الجديدة المبنية على تحقيق مصالحها وحدها أولاً من دون مصالح الآخرين لا يمكن للأمور أن تمضي بسلاسة وسهولة ويسر.
ويؤكد هذا الطرح أنه بالنسبة لدولة مثل هنغاريا التي بدأت بالتدحرج نحو الغرب الأوروبي باكراً منذ ستينيات القرن العشرين الأمور كانت صعبة جداً من زاوية القدرة على الاندماج في الجسد الأوروبي، لذلك فمن المتصور إدراك الصعوبات الاقتصادية والنفسية التي يمكن أن يواجهها الروس أو القادمون الجدد بشكل عام، وذلك منذ تسعينيات القرن العشرين.
إن اختلافات جوهرية من التجارب التاريخية والشعور القومي يمكن لها أن تصعب جداً من مسائل تماهي امتلاك المعرفة التكنولوجية والكفاءة الصناعية وتحقيق العدالة الاجتماعية، وهي أمور رئيسة ذات أثمان باهظة جداً لدى المجتمعات الغربية والشرقية ولها وحولها فهم مختلف في كل مجتمع.
وإذا تم إغلاق الطرق والحركة باتجاه المسلكين السابقين، فيبدو لي بأن روسيا اليوم ستختار مسلكاً ثالثاً ربما يكون مغايراً لما سبق، خاصة على ضوء ما يحدث من تدهور سريع في علاقاتها مع أوروبا والولايات المتحدة.
إن محاولة الهروب من مصير التحول من مزود بدائي للمواد الخام الأولية واليد العاملة الرخيصة والشعور من قبل العامة بعدم التساوي مع الغرب المتقدم، ولكون روسيا لم توفق في التكيف مع الغرب، فلربما تمضي روسيا إلى الأمام باتجاه الاعتماد على إمكاناتها الذاتية وباتجاه الشرق الفسيح والجنوب الواعد.
وعليه، فإن روسيا تحاول فتح أبوابها المغلقة أمام العالم الخارجي، وأن تحتل موقعاً محترماً بين أمم الأرض على نفس المنوال الذي سار عليه الاتحاد السوفييتي مع رفض تام للعزلة السابقة من قبل عامة الروس.
إن عدداً كبيراً من الروس يعلمون بأن الغرب جذاب بالنسبة لهم لأنه ذو ثقافة وتقاليد تاريخية وتجربة اقتصادية وتكنولوجية مدهشة تفوق الكثير مما لديهم، لكن لا يريدون الارتماء العشوائي في أحضان هذا الغرب الذي يعتقدون أيضاً أنه طامع في خيراتهم وفي ما لديهم من موارد اقتصادية مجزية.
*كاتب إماراتي