أدلى الرئيس الأميركي بايدن في خطابه أمام الجمعية العامة للأُمم المتحدة بقائمةٍ     طويلةٍ من الشكاوى والاتهامات ضد روسيا الاتحادية، ولم يوفّر الصين لكنه كان تجاهَها أقلّ حدّة. وأصل الهمّ الروسي تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1990 حيث قامت على أنقاضه دول مستقلة كانت جزءاً منه، ودول أُخرى كانت حليفةً لروسيا فانصرفت لمخاصمتها أو الابتعاد عنها. أما أصل الخلاف مع بكين فهو جزيرة تايوان التي تعتبرها الصينُ جزءاً منها، بيد أنّ أميركا تحميها! انشغلت روسيا الاتحادية بمشكلاتها الداخلية بعد تحطم الاتحاد السوفييتي. فلما استقرت بعد مجيء بوتين للرئاسة، استيقظت لديها بقيادته لواعج الوطنية الروسية العريقة. وبدأ الصدام عام 2008 مع جورجيا التي هُزم جيشها بسرعة على يد الجيش الروسي، فانفصلت أبخازيا عن جورجيا بحجة أنها قومية تريد الاستقلال! وانزعج الأوروبيون كثيراً، لكنّ الأميركيين لم يأبهوا. وفي النهاية فإنّ المستشارة ميركل طمأنتهم إلى أنّ ربط روسيا بمصالح مشتركة قوية يفيد روسيا كثيراً ويحمي أوروبا.

بيد أنّ البلدان التي انفصلت عن روسيا (مثل جمهوريات البلطيق الثلاث) أخافتها حركات موسكو إزاء الجيران، فدخلت بعد الاتحاد الأوروبي إلى الحلف الأطلسي الذي يدافع عن أعضائه بالسلاح الأميركي!     ثم ظهر همُّ روسيا الأكبر متمثلاً بأوكرانيا، وهي بلاد ضخمة (حوالي الخمسين مليون نسمة)، وكانت تُسمَّى «روسيا الصغرى».

وعقب دخول القوات الروسية إلى جزيرة القرم التابعة لأوكرانيا تم ضمَّها بموجب استفتاءٍ شعبي إلى روسيا الاتحادية. فصار أصدقاء روسيا في أوكرانيا يسقطون في الانتخابات، من مجلس النواب إلى رئاسة الجمهورية. ثم نشب القتال في عام 2015 على إقليم دونباس بمنطقتيه بسبب كثرة الروس فيه.

ويومَها، وبعد تعذر السيطرة عليه، انعقدت اتفاقية مينسك (بروسيا البيضاء) لاستحداث نوعٍ من الحكم الذاتي في المنطقتين وتبقى أوكرانيا موحَّدةً. ثم بدأت العملية العسكرية الروسية في فبراير الماضي، ووصلت الدبابات الروسية إلى ضواحي كييف وظلَّت تحاول إسقاطها لقرابة الشهر، قبل أن تنسحب باتجاه إقليم دونباس وشواطئ البحر الأسود. أما الصين فقد سبق لها أن صبرت فحصلت بدون قتال على ماكاو وهونغ كونغ، وكانتا مستعمرتين.

لكنّ الأميركان مثيرون، كما توضح زيارة بيلوسي لجزيرة تايوان، والصينيون يهددون بإعادة ضم الجزيرة عسكرياً. وما عادت الصينُ صبورةً ليس بسبب تايوان فقط، بل بسبب الحرب التجارية مع الولايات المتحدة، ولأنها تريد أن تكون لها منطقتها البحرية الخاصة في بحر الصين الجنوبي، وتُنكر عليها ذلك دولٌ مثل فيتنام وتايلاند والفليبين وبالطبع الولايات المتحدة أيضاً!  

  والواقع أنّ الأطرافَ جميعاً تُعاني من أوهام. فلا أحد يستطيع بلوغَ النصر الكامل أو تحقيق جميع أهدافه. والخصومة مع العجز تتسبب في آلامٍ هائلةٍ لكل البشر، فلن تستطيع أميركا في النهاية منع الصين من استعادة أرضها. كما أن روسيا حتى لو استطاعت إخضاع إقليم دونباس كله فها هي لم تستطع كسر أوكرانيا بعد سبعة أو ثمانية أشهر من القتال(!). لذلك يحتاج الأمر إلى وسطاء نافذين وإلى دعايات أقلّ بشأن الانتصار.  

  النظام الدولي يتغير مع تغير العلاقات الدولية التي اخترقتها الحرب حتى النخاع. وفي مؤتمر سمرقند تحدث الرئيسان الصيني والروسي عن نظام دولي جديد متعدد الأقطاب، وعن تقوية الأمم المتحدة والقانون الدولي.. والأمر نفسه تقريباً دعا إليه بايدن. وبالطبع لن يجدي التوصيف شيئاً إذا لم يكن هناك تخلٍّ عن سباق التسلح، واستعدادٌ للقبول بالتفاوض والتنازل، ليس مع الخصوم فقط، بل ومع الأنصار المتحالفين، أيضاً.

*أستاذ الدراسات الإسلامية -جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية