الذكرى الـ53 لتأسيس جريدة «الاتحاد» ومنتداها الـ17 كانا شاهدين على تغييرٍ واكب هذه العقود الخمسة، فجعل من «اقتصاد المعرفة» محوراً للتباحث، ومن الذكاء الاصطناعي أفقاً لمسار تطور العلاقة بين الإنسان وتكنولوجيا المعرفة. وفي الأوراق التي قُدّمت خلال ثلاث جلسات كان بالإمكان استنتاج أن ثلاثة أجيال تحاول التعايش والتفاعل مع هذا التطوّر المتسارع، لكن الجيل الشاب الواعد يأخذ الصدارةَ في التكيّف مع هذا النمط الجديد من التفكير، وفي بلورة ثقافته.

قد يكون موقف الجيلين السابق والمخضرم سلبياً أو إيجابياً، متفهماً أو حذراً، حيال ما هو حاصل، لكن ما يعمل الجيل الجديد على برمجته بفضل التكنولوجيا وما يتوصّل إليه من ابتكارات لتحفيز الاقتصاد، إنما يستند إلى خبرات أجيال سبقت ولم تتوفّر لها آنذاك الوسائلُ التي أصبحت متيسرةً الآن للاستثمار في المعلومات واستنباط أفكار مستقبلية.

أصبحت النماذج كثيرة للدلالة على أن «اقتصاد المعرفة» حقق نجاحاتٍ في العالَم وأتاح للعديد من الدول أن تتعرف، أولاً إلى مقوّماتها، فليست هناك أرض عقيمة بلا موارد ومقدّرات، وثانياً إلى جدوى الانتقال من الاقتصاد التقليدي كي تتوصّل إلى استخدامٍ أفضلَ لثرواتها وتحقّق تنميةً مستدامةً وازدهاراً.

ويلفت الباحثون إلى أن البلدان التي تشرع في عملية الانتقال لا تلبث أن تجد نفسَها أمام الصورة الواقعية لأوضاعها، فكل اقتصاد بات محكوماً بهذا التحوّل، وليس كل اقتصاد مؤهّلاً أو جاهزاً للانتقال نحو «اقتصاد المعرفة» بالوتيرة التي تتمناها الحكومات. فحيث يكون هناك تعليم وتدريب بمستوى جيد، وبنية تحتية للكهرباء والإنترنت، وشفافية في توفير المعلومات لبرامج التطوير، واستعداد من الدولة لتقديم الدعم المالي لهذا التوجه وبشكل خاص للأبحاث العلمية.. لابد أن تكون عملية الانتقال أكثر يسراً.

أما البلدان التي تفتقد هذه العناصر أو بعضاً منها، فإن مجرّد التعرّف إلى الحقائق والمتطلبات هو فرصة للتحرك نحو تغيير الواقع.ومن أهم الميّزات التي دفع بها «اقتصاد المعرفة» أنه ماضٍ في تغيير الخريطة العالمية للتجارة والأعمال، ففي حين تواصل القوى الغربيةُ الحفاظ على مكانتها، فإنها تعترف حالياً باتساع الرقعة التي حقّقتها الصين بفضل استراتيجياتها المبتكرة للتجارة والاستثمار، وكذلك لم تعد قادرة على تجاهل الجهد الذي بذلته الهند لتصبح بين أهم عشرة اقتصادات في العالم، ولا أن تنكر تجاربَ كوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان وغيرها، وبالتالي ما عاد في الإمكان التنكّر للمكانة المتقدمة التي أحرزتها دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، ودول خليجية أخرى، في تنويع اقتصاداتها ودخول معترك المنافسات الدولية.

الأقطاب الجديدة التي غيّرت معالم الخريطة الاقتصادية العالمية لابدّ أن تغيّر شيئاً فشيئاً مفاهيم العلاقات والسياسات الدولية نحو مزيد من التضامن الإنساني وإبراز النزعة إلى توطيد السلام والاستقرار.

هذا التوجه الذي اتّبعته الأقطاب الجديدة اتّضح أكثر في الأيام الأخيرة برفضها الضغوط الدولية للعودة إلى نمط الاستقطابات الذي ساد فترة الحرب الباردة. قد يذكّر سلوك هذه الدول بتراث «عدم الانحياز» في بدايات نشوئه كرسالة نبذ لصراعات الدول الكبرى وتضارب مصالحها، لكنه يتمّ حالياً بعيداً عن المحاور الإقليمية والدولية، وبنزعات سيادية استقلالية تأخذ المصالحَ الوطنيةَ في الاعتبار، بمقدار ما تلفت إلى أهمية إبقاء الوشائج بين الشعوب والتخفيف من وطأة المآسي الناجمة عن الحروب، والأهم أنها تتطلّع إلى إيجاد السبل للتفكير في صنع السلام وطرح المبادرات والآليات المساعِدة في ذلك.

*كاتب ومحلل سياسي - لندن