في مقال سابق نُشِر ضمن مشروع «مفكرو الإمارات» في صحيفة «الاتحاد»، بتاريخ 28 يونيو 2022، تحت عنوان «حتى لا تتحول جامعاتنا متاحفَ» تحدَّثتُ عن بناء حرَم المستقبل الذي تندمج فيه مكوّنات التكنولوجيا المتقدمة «الميتافيرس»، التي ستصبح بالتأكيد جزءاً من المنظومة التعليمية، ولكنها لن تغني عن الحضور والتواصُل الحقيقي الذي لا بدَّ منه، وخاصة للدراسة التطبيقية، والتواصل الفعَّال، والابتكار.
والحقيقة أن جائحة «كورونا» أربكت العالم، ووضعت مؤسسات التعليم -ومنها الجامعات العريقة- على خط البداية من جديد، فتحولت الجامعات إلى التعلُّم عن بُعد، كلٌّ وفق قدراتها وجاهزيتها وحاجاتها، حرصاً على استمرار التعليم، ومن ثَمَّ أسفرت مكتسبات تلك المرحلة عن تحوُّل ثانٍ تَمثَّل في «نموذج التعليم الهجين»، الذي وازَن بين التعلُّم عن بُعد والتعليم الحضوري، ولكنَّ هذَين التحوُّلَين كشفا لنا عن تحدٍّ جديد تَمثَّل في كيفيَّة إعادة جذب الطلبة نحو التعليم الحضوري بعد أن باتوا يميلون إلى التعلُّم عن بُعد، وضرورة إيجاد ما يُثير شغفهم، ويحفّزهم، ويدفعهم إلى التعليم الحضوري والتفاعلي الذي يفتقدونه في التعلُّم عن بُعد.
وهذا التحدي جعلنا نبحث عن التغيير بما يتلاءم مع متطلبات المرحلة، وننظر إلى الترابط القوي اليوم بين التعليم والتكنولوجيا وخاصة مع جيل العالم الافتراضي، فذلك الترابط يُحتّم علينا بناء نماذج مستقبلية للحرَم الجامعي تُستثمَر فيها هذه التكنولوجيا الحديثة على نحوٍ يُعزّز انجذاب طلبتنا من هذا الجيل إلى بيئة التعليم، لذا نحن اليوم أمام مفهوم حديث هو «الميتافيرسيتي» (MetaVersity) أو «جامعة الميتافيرس»، وهو تصوُّر يجعلنا نتخيَّل الحرَم الجامعي الافتراضي، ونبنيه بكل ما نحلم أن يكون فيه من متعةٍ للتعلُّم للطالب والمعلم، ومن دون أيّ قيود مالية أو حواجز إنشائية، وبحيث تكون ثقافة الترفيه فيه أكثر أهميةً وفاعليّةً لجيل اليوم، وعاملاً من عوامل الجذب إلى الحرَم الميتافيرسيتي، وعنصراً داعماً للسعادة والإيجابية وجودة الحياة في بيئة التعليم. 
إن عالم الميتافيرس الافتراضي يقوم على أنواع معقَّدة ومتداخلة من تكنولوجيا الواقع الافتراضي (Virtual Reality)، والواقع المعزز (Augmented Reality)، والخليط (Mixed Reality)، وتُكوِّن معاً مزيجاً يُسمَّى «الواقع الممتد» (Extended Reality)، وتعتمد على تقنيات ثلاثيَّة الأبعاد تتكامل تكامُلاً وثيقاً مع المحسوسات المادية والبشرية، وتتداخل معها تقنيات الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، والرؤية الحاسوبية، ومستشعرات حسيَّة، وتقنيات أخرى أيضاً، مثل البلوك تشين، لضمان تخزين البيانات، والتعامل معها بما يضمن الحماية والخصوصية للمستخدمين. ونظراً إلى أن ألعاب الفيديو تركّز على الواقع الافتراضي الثلاثي الأبعاد، فإنها تُقدِّم أكثر التجارب شبَهاً بالميتافيرس اليوم، ولكنَّ عالم الميتافيرس أصبح مؤثراً في جميع قطاعات الأعمال، ولا سيَّما قطاع التعليم، إذ يُتوقَّع أن يتجاوز حجم الاستثمارات المرتبطة بـ«الويب 3» وعالم الميتافيرس نحو تريليون دولار أميركي بحلول عام 2030.
وسيتيح عالم الميتافيرس للطلبة فرص تعلُّم فريدة من نوعها، تجمع بين التعليم النظري والتدريب العملي في آن معاً، إذ يتحرك المتدربون في عالم الميتافيرس الافتراضي بأجسادهم كاملةً، تماماً كما في الحياة الواقعية، ما يوفّر نفقات استخدام المعدات والمواد الاستهلاكية، إضافة إلى السفر. وعلى سبيل المثال يمكن توظيف الميتافيرس في مجال العلوم الكيميائية عن طريق إجراء تفاعلات كيميائية مخبرية، والتعامل معها على نحوٍ شبه حقيقي وواقعي، وكذلك توظيفها في العلوم الدقيقة، ودراسة الكائنات الحية، والغوص في جسم الإنسان، ومعرفة تفاصيل دقيقة عنه يستحيل الوصول إليها في الجسم الحقيقي، ويوجَد كثير من الأمثلة في مجالات الهندسة، والطيران، والعلوم الحديثة.
«الميتافيرسيتي» إذنْ حرَم جامعي مستقبلي ثُلاثي الأسس، يشمل التعليم، والتطبيق، وثقافة الترفيه، وهو تصوُّر سيعزز الحضور الطلابي والدراسة التفاعلية، اعتماداً على التكنولوجيا المتطورة، والتواصل المعرفي والفكري والإنساني بين الطلبة، الذي لا غنى عن حضوره في بيئة التعليم المتكاملة، إنه رؤية موسَّعة تحمل كثيراً من التفاصيل بشأن شكل الحرَم الجامعي مستقبلاً، وتجمع بين الخدمة التعليمية وإعادة هندسة المباني والاستثمار الأمثل للموارد، والأهمُّ تقديم تعليم أكثر ملاءمةً لجيل اليوم، بحيث يكون الحرَم الميتافيرسيتي هو الحرَم الأساسي، وليس مكملاً للحرَم الجامعي.