في خطاب غريب وجهه الرئيس الفرنسي باتجاه الولايات المتحدة الأميركية في شكل مناشدة - وليس معلوماً بالتحديد لمن هي موجهة تلك المناشدة!: أهي للإدارة أم للعامة الأميركية؟ يقول في المناشدة بأنه يطلب من «أصدقائه» الأميركيين عدم بيع الغاز لبلاده بأربعة أضعاف السعر الذي كانت تشتريه به في السابق من روسيا.

وتأتي الغرابة من استخدام مصطلح «أصدقاء» في المناشدة، وكأن من أطلقها لا يضع في اعتباره شيئاً عن النظام الرأسمالي والعقلية «الميركانتيلية» أو التجارية البحتية التي تتعامل بها الدول الرأسمالية في سياستها الخارجية واقتصادها السياسي والقائمة على تحقيق الأرباح والمصالح وليس على الصداقة.

وهنا لن أخوض في التقاليد الأكاديمية المتعلقة بفهم سياسة الولايات المتحدة الخارجية وسأكتفي بالإشارة إلى أنها تنطلق من منطلقين متناقضين هما العزلة Isolationism والعالمية Internationalism «تميزاً لها عن العولمة Globalization»، فكلا الأمرين متجندان في المعتقد الخاص بأن القيم الأميركية والمؤسسات والتجارب والأدوار والرسالة هي فريدة واستثنائية وخاصة بالولايات المتحدة وحدها رسمياً وشعبياً.

هذا من الناحية الأكاديمية والنظرية وشعارات القيم والمبادئ المرفوعة، أما من الناحية العملية فإن السياسة الخارجية يتم تسييرها من حيث الصناعة والتنفيذ من قبل محددات اقتصادية - تجارية واستراتيجية، ولا مكان فيها لاعتبارات الصداقة والإنسانية والعاطفية الصرفة والمجردة.

وفي تقديري أنه ضمن هذا الإطار يمكن فهمها تجاه العالم أجمع، ولا فرق في ذلك بين دولة وأخرى، وإن تم إطلاق شعارات ودعاية إعلامية تجاه دول أو قضايا بعينها. وما أريد قوله هو وجود ارتباط تقليدي مباشر بين متطلبات الأعمال والتجارة والاقتصاد والسياسة الخارجية، فعلى سبيل المثال سياسة الأبواب المفتوحة على صعيد التجارة هي رد فعل عملي على سياسات الحماية التجارية التي تفرضها العديد من دول العالم على السلع والأعمال المستوردة وتمنع من خلالها صناعات وشركات الولايات المتحدة من دخول أسواقها.

إن فهماً دقيقاً لسياسة الولايات المتحدة الخارجية بكامل تفاصيلها ليس بالأمر السهل ويحتاج منا إلى تصنيفها في منظومات عدة، فعلينا أولاً أن نقارن تفسيرات المناهج السائدة حالياً مع تفسيرات أخرى لكي نحصل على فهم أكثر اتساعاً، وهذا أمر غير متاح ضمن هذه المساحة. لكن في سياق ذلك يوجد متغير عملي - أدواتي لتوجهات السياسة الخارجية هو عبارة عن ارتباط واضح بين طبيعة الاقتصاد السياسي للبلاد وسياستها الخارجية.

وهذا يعني أن المسألة الأساسية يدخل فيها التأطير الفعلي لدستور الولايات المتحدة منذ البداية. إن الصاغة الأوائل للدستور الأميركي كانوا جميعاً تقريباً من أصحاب المال الكبار وملاك الأراضي الواسعة المهتمين بالتجارة والاقتصاد والتصنيع، وبالتالي فإن الدستور جاء عاكساً للمصالح الأساسية لهم والتي قامت عليها الدولة.

إذاً فالدولة التي أسسها الأغنياء من ملاك الأرض والتجار وأرباب الصناعة وحائزي السيولة النقدية وأصحاب البنوك وملاك مناجم المعادن، لم يعلنوا عن قداسة الملكية الخاصة فقط، ولكنهم قاموا أيضاً بوضع المقاييس الخاصة بالالتزامات الاقتصادية والتجارية التعاقدية، وذلك لكي تحمي المعاملات النظامية بين الجماعات المتنافسة في داخل الدولة وبين الدولة والدول الأخرى حماية لمصالحهم التجارية مع الخارج. لذلك، فإن قوة جماعات المصالح هذه هي علاقة - تعاقدية تهدف إلى تحقيق الأرباح في الداخل والخارج على حد سواء، بمعنى أن جماعات المصالح الخاصة التي تهيمن على المشهد الاقتصادي هي ذاتها التي تهيمن على المشهد السياسي والسياسة الخارجية، وهي التي لديها الإمكانات لكي تؤثر على الدولة وتحدد سياساتها وتحركاتها الداخلية والخارجية.

ومنطقياً لا بد أن ينتج عن ذلك على المستوى العالمي أن تتزامن وتتساير وتتعايش مصالح هذه الجماعات مع المصلحة الوطنية، وبالتالي، فهي التي تصقل السياسة الخارجية بعيداً عن مصطلحات ومفاهيم الصداقة المجردة والقضايا الإنسانية والعواطف وحقوق الإنسان ونشر الديمقراطية إلى غير ذلك من مصطلحات طوباوية حالمة تصاغ وترفع وفقاً لشعارات لا معنى حقيقي لها على أرض الواقع.

* كاتب إماراتي