استكمالاً لحديث سابق حول «الأمن الغذائي العربي»، نجد أنفسنا أمام معضلة حقيقية تتطلب التدخل السريع والفعال، لحماية الأمن الغذائي العربي، قبل أن يبدأ السلاح الاستراتيجي الجديد، الذي تتحكم به «قوى الغذاء العظمى» الفتك بالشعوب العربية. يذكر تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة أن هناك 37 بلداً في مختلف أنحاء العالم تواجه حالياً أزمات غذائية من جرّاء الصراعات والنزاعات والكوارث المتلاحقة، حيث تعتري حالة انعدام الأمن الغذائي، ثلث دول العالم تقريباً، بانخفاض مستوى المخزونات الغذائية إلى حد غير مسبوق، وكذلك تأثر جميع دول العالم بارتفاع أسعار الأغذية الأساسية، تأثراً يمكن ملاحظته بسهولة، ليس من خلال التقارير فقط، بل بالعين المجردة، ويكفي أن زيادة الطلب على الوقود الحيوي من المصادر الزراعية، وارتفاع أسعار النفط الذي دفع لارتفاع أسعار الحبوب، قد أدى إلى حالة عدم توازن أخرى تسببت في خلق بلبلة وفوضى في دول كثيرة من العالم.

وحسب تقرير منشور لـ «فورين بوليسي»، فإن مشكلة الأمن الغذائي العالمي ليست في نقص القمح، بل في نقص العدد الكافي من السفن لنقله، ونقص الأموال اللازمة لشرائه بسبب الارتفاعات التي نتجت عن ذعر الأسواق، وقد نشرت مجلة «فورين بوليسي» تقريراً تناول تأثير الحرب الروسية الأوكرانية على الإمدادات الغذائية العالمية، في وقت يستحوذ فيه البلدان مجتمعين على ما بين 20% إلى 30% من صادرات القمح في العالم، وأكدّ التقرير أن الدول الغنية أصابها الذعر، وأن التداعيات السلبية حلت على البلدان الفقيرة التي تعتمد على الواردات الغذائية، والتي تتركز في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

وإن هذه البلدان تواجه الآن الجوع وعدم الاستقرار السياسي، ليس لأنه لا يوجد ما يكفي من الغذاء في العالم، ولكن لأن البلدان الغنية فقدت اتزانها وهدوءها.نقص

في عام 2002، ذكر أول تقرير للتنمية الإنسانية العربية أن مشكلة الأمن الغذائي العربي تتربع على قمة المشاكل في الوطن العربي، حيث ارتبط توفير الغذاء بالوضع الأمني بشكل غير مسبوق، ولذلك يرى بعضهم على المستوى الأمني أن الاعتماد على المستوردات الغذائية يجعل الأقطار العربية تحت رحمة الدول المتحكمة في إنتاج الغذاء مما يعرض أوضاعها الأمنية للخطر ويضعها رهن الظروف والأوضاع العالمية وقد يضطرها إلى الخضوع لمطالب ربما لا تتفق ومصالحها القومية ولا مع سيادتها واستقلالها.

ومنذ أزمة الغذاء العالمي في العامين 2006 و2007، بدأت تظهر أعراض تأثر الأمن الغذائي العربي جلية وواضحة للعيان، وفي نهاية عام 2008 وبدايات عام 2009 ظهرت الأزمة المالية العالمية، وجاءت بعدها أزمة التغييرات المناخية عام 2010 فعصفت كلها بالأمن الغذائي العربي وتصدعت اقتصادات معظم الدول العربية، وهذا ما حدث تقريباً في نهاية 2010 وبداية 2011 حيث انفجرت ثورة ما يسمى بـ«الربيع العربي»، التي كانت واحدة من أخطر نتائج انعدام الأمن الغذائي في دول عربية مثل تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا ولحقت بها لبنان والعراق والسودان وغيرها.

ترى تقارير عديدة أن موجات «الربيع العربي» في تونس نابعة أصلاً من المناطق الريفية، وأن ما تعرض له «البوعزيزي» من ظلم مرتبطٌ في المقام الأول بحادثة تجريده من ملكية أرضه ومديونيته للبنك الزراعي الوطني، فتم دمج النضال من أجل السيادة الغذائية.

وهذه المفاهيم هي التي ظهرت بعد عام 2011 في الفضاء العام، وأصبحت متداولة من قبيل الكرامة، والحقوق، والعدالة، ويُلاحظ أيضاً في التظاهرات التي جابت شوارع تونس آنذاك كانت ترفع شعارات مسانِدة للمزارعين مثل «حركة الجيل الخطأ» التي تضامنت مع شعاراتها «حركة أولاد جبالة» في عام 2021 فتظاهروا ضد ارتفاع أسعار الأعلاف الحيوانية، ونقص الأسمدة التي أثرت بشدة على موسم الحصاد.

أصبح الغذاء، كما لاحظنا، بعد كل من جائحة كورونا، والحرب الروسية الأوكرانية، سلاحاً استراتيجياً فتاكاً، يمتلكه بعضهم ويتحكم به، ولا يمتلكه بعضهم الآخر، بل ولديه نقص شديد فيه، وأصبحت «قوى الغذاء العظمى»، لا تختلف على الإطلاق عن قوى الأسلحة العسكرية المتطورة الأخرى، أو مع «قوى الطاقة العظمى»، فاهتزت إمبراطوريات، على وقع التضخم وارتفاع الأسعار وراحت شعوبها تئن من نقص الغذاء، وتماسكت دول صغيرة، قادرة على توفير الغذاء أو تحقيق الاكتفاء الذاتي، وتاهت دول فقيرة أخرى، ووصلت طرقاً مسدودة تماماً، بسبب شدة ووطأة نقص الغذاء وانتظار السفن التي ستاتي بالحبوب، لكنها لم تظهر في الأفق البعيد.

* لواء ركن طيار متقاعد