في عام 2003 أقمت لفترة في إحدى ضواحي نيوجيرسي، في مدينة صغيرة اسمها «كارتريت»، وتعرّفت هناك على مطعم قديم جداً للبرغر الأميركي يملكه مواطن أميركي طاعن في السن يدعى توم. كان توم محارباً قديماً شارك في الحرب العالمية الثانية، وعلى الجبهة الفرنسية تحديداً، وحتي في مطعمه، حيث يعد الطعام بنفسه، وفوق مريلته، يضع توم وسام الجيش الأميركي الذي يعتز به جداً. كان عجوزاً مفعماً بالنشاط والحيوية.
كان مطعم توم غريباً، مثل صاحبه، فهو أساساً يشغل الجزءَ الخلفي من منزله الكبير، وكل ما فيه من أدوات وأواني وأجهزة قديم جداً، وكان توم يرفض تغييرها، وربما هذا ما أحبه الزبائن فيه.
على باب الثلاجة الضخمة، كان توم يلصق يومياً أهم مقال سياسي منشور في الصحف لذلك اليوم حول الوضع الداخلي للأمة، ثم مقالا سياسياً حول الحدث الأهم في العالَم، ويضع بينهما كاريكاتيرَ ذلك اليوم، ويترك باقي الباب الضخم مساحة حرة لمن يريد تعليق خبر أو مقال أو طرفة أعجبته بكل حرية.
توم كان يحب الحديث عن السياسة، وعلى طريقته التهكمية، وأجزم أن طريقة حديثه أيامَها عن الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش لم تكن لتروق للبيت الأبيض مهما تحلوا بروح ديمقراطية، فتوم كان لاذعاً جداً، وحديثه مفعم بالتاريخ والحقائق.
الثرثرة السياسية تتجلى عند توم عندما يبدأ بإعداد اللحمة يدوياً، فهو لا يؤمن بالغذاء المصنَّع بطرق حديثة، وإلى جانبه زوجته الطيبة ماغي تساعده وتطلب منه إقفال فمه بين حين وآخر بشكل لا يخلو من مزاح.
توم كان لا يفهم كيف تحولت أميركا إلى عملاق شره يريد التهام العالَم، وكان يأسف للحال الذي وصلت إليه بلاده، ويسهب ببساطة قائلا إنه فخور حتى مماته لمشاركته في حرب مشرّفة أنقذت العالم حسب رأيه، لكنه لا يفهم ما تلاها من حروب!
توم قارئ جيد للتاريخ الأميركي حسب اعتقادي، ويحفظ اقتباسات هائلة عن الآباء المؤسسين لبلاده، وينتشي بترديدها أمام زبائنه، ولديه اعتقاد بأن آخر الرؤساء المحترمين كان جون كينيدي، وأن البيت الأبيض من بعده صار وكراً للسياسة! هكذا قال ذات وجبة بورغر، ولم أفهم قصده!
توم كان حانقاً بشدة على المساعدات الخارجية التي تدفعها واشنطن، ويعتقد أنها الضريبة التي يدفعها مرغماً وبغير قناعة منه، فهو لا يفهم لماذا عليه أن يدفع لرفاهية أُناس خلف المحيط، يتقاتلون مع أناس آخرين. 

ويعتقد توم أن العلاقة مع العرب يجب أن تكون جيدةً لكي لا يرتفع سعر غالون البنزين لسيارته الكاديلاك القديمة، وهو يدرك أن الأوضاع تأزمت في الشرق الأوسط من دون الحاجة إلى سماع الأخبار، فقط عليه أن ينظر إلى يافطة الأسعار في محطة البنزين التي تقابله، ليعرف من أرقامها إلى أي حد الوضع متأزم هناك! يقول ذلك ويضحك.
ملاحظات توم طريفة، وتحمل وعياً نادراً ما نجده بين الأميركيين حول جذور الأزمات في السياسة الخارجية لبلادهم. وحين تسأله السؤالَ الأصعب، عن مشاعره ورأيه حيال ما حدث في يوم 11 سبتمبر 2001 الأسود، يقدم لك أخيراً طبق البورغر الشهي، مشيراً إليه: (!it is home made sir)

*كاتب أردني مقيم في بلجيكا