سرّعت الحرب الروسية الأوكرانية من التوجه العالمي الرامي إلى إيجاد نظام اقتصادي موازٍ للنظام الاقتصادي والمالي القائم حالياً، حيث أشرنا في هذه المساحة قبل عامين إلى إمكانية انضمام دول مجلس التعاون الخليجي لمجموعة «بريكس» سريعة النمو، والتي تتكون حالياً من دول صاعدة، كالصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، ويشكل سكانها 41% من مجموع سكان العالَم، وتستحوذ على 23% من حجم الاقتصاد العالمي و18% من التجارة الدولية.. مما يعكس مكانتها وأهميتها.

الجديد في الأمر هو طلب المملكة العربية السعودية الانضمام للمجموعة والترحيب الذي لقيته من الدول الأعضاء، كما أن هناك حديثاً عن إمكانية انضمام دولة الإمارات وتركيا «لبريكس»، مما سيحدِث تغيراً جوهرياً مهماً في موازين القوى، باتجاه إيجاد نظام عالمي أكثر توازناً وتنوعاً.

فانضمام الدول الثلاث المذكورة سيشكّل نقلةً نوعية ستساهم في قلب موازين القوى لصالح التكتل، فالسعودية بمكاناتها الهائلة في مجال الطاقة والإمارات باعتبارها مركزاً تجارياً ومالياً عالمياً وتركيا بموقعها الجغرافي ونموها الصناعي والتقني، ستضيف معاً قوةً كبيرةً ومؤثرةً وسيسهم وجودُها في إعادة توزيع القوى بين الشرق والغرب.

والحال أن تقوية مجموعة «بريكس» سيعني انقسام العالم إلى تكتلين كبيرين، الأول يتمثل في المعسكر الغربي الذي يتحكم حالياً في مفاصل الاقتصاد العالمي، ويسمى غربياً رغم أنه يشمل اليابان وأستراليا في الشرق، في حين يتشكل التكتل الشرقي من دول «بريكس» رغم وجود البرازيل في قارة أميركا الجنوبية، مما يعني إمكانية اشتداد المنافسة الاقتصادية والجيوسياسية في السنوات القادمة. ذلك أن انضمام دول نفطية إلى المجموعة يعني تحكمها في مصادر الطاقة لتهيمن على 31% من إنتاج النفط، وهو تطور دراماتيكي ستكون له آثار جوهرية في العلاقات الدولية، إذ سيكون هناك تكامل داخل مجموعة «بريكس» بين أهم منتجين وأكبر مستهلكين للطاقة. كما أن وجود مراكز تجارية لوجستية مهمة ضمن دول المجموعة سيعني تحكماً أكبر في مفاصل التجارة الدولية.

إذن يقف العالَمُ أمام قطبين كبيرين، الأول يحاول الحفاظ على مكانته التاريخية التي دعمها بصورة كبيرة بعد الحرب العالمية الثانية، وهو يحاول مقاومة أي تغيير في هيكلية الاقتصاد العالمي، لكنه في نفس الوقت يرتكب الخطأ بعد الآخر بتجاهله التغييرات الكبيرة الجارية وعدم أخذها بعين الاعتبار، مما أدى ويؤدي به إلى فقدان حلفاء مهمين بثقل اقتصادي وسياسي كبيرين.

أما القطب الآخر فيتصرف بذكاء شديد بتعامله المرن والمتكافئ مع الدول الأخرى والآخذ بالمصالح المشتركة للأطراف كافة، وهو ما جذب إليه دولاً مهمةً، حيث يتوقع أن تعلن المزيدُ من الدول عن نيتها الانضمام لـ«بريكس» في السنوات القادمة، إذا لم يغير القطب الأول من توجهاته وسياساته التي تجاوزها الزمن.

ويبدو أن الأمور تسير باتجاه وجود قطبين اقتصاديين وماليين متنافسين، إذ أعلنت دول «بريكس» عن نظام بديل لصندوق النقد الدولي من خلال تأسيس بنك موازٍ برأس مال 150 مليار دولار، كما أن الأزمة الأوكرانية عمّقت بصورة ملحوظة من الارتباط الاقتصادي والتجاري بين الدول الأعضاء، بحيث أصبحت تعتمد على بعضها البعض بصورة متزايدة، في الوقت الذي انسحبت فيه الكثير من الشركات والمؤسسات من أسواق دول «بريكس»، كروسيا والصين، وفُرضت قيودٌ على صادرات بعض السلع ذات التقنية المتطورة لدول المجموعة. ويعتبر هذا التطور الناجم عن وجود قطبين عالميين تطوراً مهماً، يمكن أن يساهم في الاستقرار والأمن العالميين وفي قيام علاقات متكافئة مبنية على المصالح بين مختلف الدول بشرط أن لا يؤدي إلى تصادم عسكري أو تنافر بين مكونات القطبين، وهو ما يتطلب فهماً عميقاً للتغيرات الجارية والتي لا بد منها بحكم المجري التاريخي للتطور، فالنظام الاقتصادي ومكوناته الذي تأسس قبل ثمانين عاماً لم يعد قابلاً للاستمرار بسبب التغيرات الهائلة في موازين القوى الاقتصادية والجيوسياسية، وبروز دول قوية وتراجع دول أخرى اقتصادياً. مثل هذا الفهم يمكن أن يجنِّب العالَمَ الكثيرَ من الصراعات والحروب ويساهم في إقامة نظام عالمي أكثر عدلاً وتسامحاً.

*خبير ومستشار اقتصادي