حسمت الولاياتُ المتحدة الأميركية موازين القوة في الحرب العالمية الثانية حين ألقت قنبلتَها النوويةَ على اليابان، لتصعَد على مسرح العلاقات الدولية كقوة عظمى مهيمنة. وبعد زمن قصير من ذلك، ولحيازتها القنبلة النووية هي أيضاً، ولتمدد جيشها الأحمر الكبير، كان الاتحاد السوفييتي يشارك الولايات المتحدة ذلكَ الحضورَ المهيمنَ على المسرح الدولي. وما بين الأميركان والسوفييت توزعت القوة ضمن معيار الجيوش والمدافع وقوة السلاح، وحين وصلت الأسلحة مداها الأقصى كان السباق في ميدان الفضاء، بعتمته اللانهائية، المعيارَ الجديدَ لتحديد القوة وفرزها بين قوة عظمى وقوة عادية ودول تابعة هنا أو هناك.
تهاوى الاتحاد السوفييتي، وصار الاقتصاد معياراً إضافياً إلى جانب قوة السلاح في تكريس موازين القوة في العلاقات الدولية. وفي الأثناء كانت هناك ثورة جديدة تتشكل عنوانُها «التكنولوجيا المعرفية». وشيئاً فشيئاً صار مَن يملك «المعلومة» هو الذي يملك القوةَ، ومَن يتمكن من المعرفة قادر على أن يجد مكانَه على مسرح العلاقات الدولية.
ومع مطلع الألفية، كان واضحاً أن المَدافعَ تراجعت وصار مكانها المتاحف التي تذكّرنا بزمن غابر، وبتسارع مذهل إلى درجة أننا ما نزال نشعر بعام 2000 كأنه الأمس القريب. كانت تكنولوجيا المعلومات تجتاح حياتنا بكل تفاصيلها، وصار الذكاء الاصطناعي ترسانةَ القوة بالنسبة لكل من يتقدم في مجاله.
واليوم، هناك قوة المعلومة المتوازية بلا انقطاع مع التكنولوجيا، ولا معنى لكل ذلك بدون قوة الذكاء الاصطناعي الذي لا يعترف بالحجم، بل على العكس، إذ أن معظم تقنية هذا القطاع التكنولوجي الدقيق قائمة على ثقافة النانو وعلى خلق عوالم افتراضية موازية تستطيع السيطرةَ على عالمنا الواقعي بكل تفاصيله، وهذا ما يحدث كل لحظة وكل ساعة في يومنا الآن، بدءاً من الهواتف الذكية في أيدينا وليس انتهاءً بكل ما يحيط بنا من إنترنت الأشياء التي أنطقتها التكنولوجيا وصارت الجمادات تتحدث مع بعضها بلغة تتجاوز منطوقَنا البشريَّ كلَّه!
هذا التحول المذهل في مسيرة البشرية كان له أثَرُه على العلاقات الدولية؛ ذلك أن مَن يملك المدفعَ الأضخمَ عليه البحث عن مساحة متحفية لتخزين مدافعه هناك حتى يراه طلاب المدارس في حصص التاريخ، أما مَن يملك تكنولوجيا المعرفة والذكاء الاصطناعي فقد صارت مساحته على المسرح الدولي مؤثرةً وفاعلةً بما يكفي ليقول كلمتَه ويؤثِّر على مجرى الأحداث ومسار التاريخ.
هناك حكاية تاريخية عن حوار بين نابليون وأحد ضباطه أثناء الحروب النابليونية لغزو العالَم، حيث قال له الضابط متسائلا بقناعة إيمانية عن موقف الرب، وفي أي صف سيقف بين المتحاربين؟ فرد نابليون، الحالم بالسيطرة على العالم حينها، قائلا إن الله سيقف مع المدفع الأقوى!
واليوم، نجد مدافعَ نابليون نفسها مرميةً على مساحات «متحفية» في واترلو البلجيكية تحيط بمطعم سياحي وتلة يصعد على درجاتها السياح كرياضة، وفي قاعة صغيرة بين المطعم السياحي والتلة التي تشكل نصب معركة واترلو التي أنهت أحلام نابليون، هنالك قاعة صغيرة تعيد تصوير المعركة الشهيرة بتقنية الذكاء الاصطناعي، وهو ذكاء علمي معرفي متناهي الصغر في الحجم يسخر من تلك المدافع الضخمة التي تربض في الخارج بصمت تاريخي مرعب!

*كاتب أردني مقيم في بلجيكا