إذا أقررنا ابتداء، بأن مصطلح أو مفهوم «الحكم»، أصله من الحكمة، وليس من «التحكم» والتسلط على رقاب الشعوب، أدركنا المغزى من ضرورة وجود حاكم ومحكوم في الأزمنة كافة. فالمسؤولية عن إدارة الدول والمجتمعات تتطلب «الحكمة السياسية» في تسيير شؤون الحكم، وخاصة في أوقات الأزمات التي تعصف بالعالم، وليس في دولة ما فحسب. والأحوج إلى هذه الحكمة السياسية عندما تختلط المبادئ بالمصالح، وتبقى بينهما «شعرة معاوية» المعروفة في حفظ التوازنات بين الشعوب والدول وحسن التعايش بين الأقليات المخلتفة في الأديان والأجناس والأعراق والأفكار والتوجهات.

أما عند التعامل مع السياسة البحتة ويعلو كعب المصالح، فهنا قد تطل التناقضات برأسها، والمطلوب إخراج المصلحة من بينها من دون إحراج. والأدق من هذا، هو في معرفة المسؤولين لفقه خير الخيرين وشر الشرين، من بعد تعارض خطوط المصالح وتتشابك خيوط التناقضات وتتصادم مع متطلبات الواقع ومستجداتها المتسارعة. أبرز نموذج على ذلك، الصين اليوم، وليس قبل أربعين عاماً، لقد خرجت من عباءة الأيديولوجية الماركسية الضيقة، إلى جلباب الاقتصاد الواسع، بل إنها تسعى إلى تغطية العالم بطريق مفروش بالحرير. هذا الحزام الاقتصادى يربط بين أكثرمن 60 دولة حتى الآن، إلا أن بعضهم بدأ يبدي خشيته من أن تتسلل الأيديولوجيا مرة أخرى إلى عروق هذا المشروع أو غيره.

ومن هؤلاء يأتي كيفن رود، رئيس الوزراء الأسترالي الأسبق، في مقالٍ له بمجلة «فورين أفيرز»، لينبه على خطورة العودة إلى النهج السابق، مؤكداً على أهمية سياسة «الإصلاح والانفتاح» التي ظلت تهيمن على أركان السلطة في الصين منذ عام 1978، وذلك على ضوء ما حققته الصين- لدى كثير من المحللين- من طفرة اقتصادية كبيرة ونهضة تنموية كبرى. الزعيم الصيني الأسبق، كان قد أعلن عام 1978 أن بلاده ستنفصل عن الماضي لتتبنى رؤية اقتصادية، بعد عقود من التطهير السياسي، تحت حكم «ماو تسي تونغ»، الذي يعد أول رئيس للصين. «دينغ» رفع الحظر المفروض على المؤسسات الخاصة والاستثمار الأجنبي، ومنح الأفراد قدرًا أكبر من الحرية، في تحول أُطلق عليه اسم «الإصلاح والانفتاح»، والمأمول أن تستمر هذه السياسة، كي تزداد مكاسب الصين وتنتقل تجربتها التنموية إلى آفاق أرحب. ويخشى بعضهم من التركيز على الاعتبارات الأيديولوجية، بطريقة قد تعطل مسارات التنمية، أو تفتح باب الجدل بعيداً عن التطور الاقتصادي المتواصل.

لا بد من أخذ هذا الهاجس بعين الاعتبار، خاصة بعدما حققت الصين حضوراً عالمياً وتطوراً كبيراً في المجالات كافة، ومن الحكمة الانتظار من دون الهرولة إلى إصدار أحكام مسبقة على تجربة النمو الصينية في المرحلة المقبلة، التي يتعين على الدول النامية الاستفادة من مكامن نجاحها وعوامل تميزها... في أي تجربة تنموية من المهم ألا تكون الأيديولوجياً سبباً في عرقلة التطور، ومن الخطأ العودة إلى النهج الذي يصبح للأيديولوجيا فيه الكلمة الفصل، سواء في العلاقات بين الدول أو في وضع الأهدالف التنموية.

* كاتب إماراتي