يواجه القرن الأفريقي تحديات متفاقمة، فالحروب الأهلية والنزاعات الإقليمية على الحدود والأراضي الزراعية والمراعي لا تزال قائمة، بينما تُنذر تداعيات التغير المناخي بمخاطر حقيقية، تُفاقم من حالة عدم الاستقرار في المنطقة، وهو ما يفرض على المجتمع الدولي، ولاسيما القوى الكبرى التعاون -وليس التنافس- لإنقاذ المنطقة من مستقبل قاتم، وهذا ما أكدت عليه الندوة التي عقدها مركز تريندز للبحوث والاستشارات بعنوان «جهود السلام والاستقرار في منطقة القرن الأفريقي».

إن ضرورة تعاون القوى الكبرى لمساعدة دول الإقليم تقع في صلب مصالح المجتمع الدولي عمومًا، والقوى الاقتصادية الكبرى على وجه الخصوص، وذلك بالنظر إلى أهمية القرن الأفريقي الاستراتيجية التي تنبع من كونه منطقة مطلة على أحد أهم الممرات البحرية التجارية الرئيسية في العالم، مضيق باب المندب، وقريبة من شبه الجزيرة العربية الغنية بمصادر الطاقة، وتصل حوضي البحر الأحمر والمتوسط وكذلك أوروبا وما وراء الأطلسي بمنطقة المحيط الهندي والهادي، التي تتعاظم أهميتها الاستراتيجية للاقتصاد العالمي، وللنظام الدولي ككل.

لذا، فقد اكتسبت الندوة التي شارك فيها نخبة من الخبراء والمختصين من دول عدة أهمية خاصة، حيث شخّصت واقع الإقليم من كل الجوانب، وقدمت مجموعة من التوصيات العملية التي يمكنها إذا ما وجدت طريقها إلى التنفيذ أن تُغير وجه المنطقة وتنقلها من حالة البؤس والمعاناة وعدم الاستقرار إلى منطقة متطورة مفعمة بالحيوية والأمان، وذلك بالنظر إلى الإمكانات الكبيرة التي تحتويها المنطقة، فضلًا عن موقعها الفريد.

وفي هذا السياق فقد دعت الندوة إلى بناء القدرات المؤسسية والفنية لتقوية سلطة الحكومات الوطنية وزيادة مرونتها وقدرتها على التعامل مع التحديات الخارجية، وضرورة الحد من التنافسات المزعزعة للاستقرار بين الأطراف الأخرى من خارج المنطقة، وإنشاء صندوق إقليمي للتنمية الاقتصادية بتمويل دولي، بحيث يركز الصندوق على القطاعات التي توفر فرص العمل (مثل الزراعة والصناعة) ودعم الشراكات بين القطاعين العام والخاص لتنفيذ شبكات الكهرباء وشبكات النقل المتكاملة إقليميًا، إضافة إلى التصدي على وجه السرعة لتهديدات تغير المناخ، بما في ذلك الجفاف والتصحر وما تسببا فيه من تفاقم لأزمة الأمن الغذائي.

ولأن القرصنة كانت من أكبر التحديات التي واجهت المنطقة، ويمكن أن تؤدي تداعيات الجفاف وعدم الاستقرار الحالية إلى ظهور موجة جديدة من هذه الظاهرة، التي كان للتعاون الدولي دور مهم في الحد منها، بل والقضاء عليها، فقد أوصت الندوة بتنسيق الجهود الإقليمية والدولية الهادفة إلى تحقيق الأمن البحري في القرن الأفريقي واعتماد آليات جماعية مشتركة لتحقيق هذا الهدف، ورفع مستوى القدرات الفنية الوطنية في مجال الأمن البحري وتعزيز أمن المواني.

ولم تغفل الندوة عن القضية المحورية عند الحديث عن الاستقرار الإقليمي هناك، وهي وضع آلية لتسوية المنازعات بين دول المنطقة وتقديم الدعم اللازم لضمان فاعلية هذه الآلية، والنظر في إمكانية تشكيل تجمع أمني لإدارة التعاون بين دول المنطقة لمكافحة الإرهاب ومعالجة المسائل الأمنية الأخرى، والعمل على إضفاء الطابع المؤسسي على الحوار الاستراتيجي مع الأطراف الخارجية، مع ضرورة ربط مساعدات التنمية الأجنبية بتحسين وتعزيز قواعد الحكم الرشيد.

وتبقى الثقافة والروابط التاريخية من أهم عوامل تحقيق السلام والاستقرار في القرن الأفريقي، وبالطبع في المناطق الأخرى من هذا العالم المترابط، لذا فقد أخذ هذا الجانب حيزًا من الاهتمام، حيث دعا الخبراء إلى تطوير استراتيجيات إعلامية لتقوية العلاقات الثقافية والتاريخية المشتركة بين شعوب القرن الأفريقي لتثبيت النسيج الاجتماعي وتعزيز التكامل الإقليمي، واقترحوا عقد ندوة سنوية حول «الجهود والمبادرات لتأمين السلام والاستقرار في القرن الأفريقي» لمتابعة هذه التوصيات، حيث يمثل الاستقرار في هذه المنطقة مصلحة إقليمية وعالمية بامتياز. 
*مركز تريندز للبحوث والاستشارات