يصح لنَّا عنونة عهود الدَّولة العراقية الحديثة: العِراق الملكي (1921-1958)، الجمهوريّ القاسمي (1958-1963)، والعارفي (1963-1968)، البعثي (1968-2003)، وأخيراً الدَّعويّ (2003- الله أعلم إلى متى). قد يثور السُّؤال: كيف سميّت العراق الدَّعويّ، والأحزاب كثرٌ؟! يبدو التَّساؤل صّحيحاً مِن ناحية المظهر، أما الجوهر فمنذ أصبحت الوزارة والخزينة والقوات بيد «الدَّعوة»، حُشيت المرافق بالدّعويين القدماء والجُدد، وتحقق مبدأ «ذوبوا...»، الذي أعلنه الدَّعوة (1979)، وقد ذاب العِراق في غير أهله. 
أسس العهد الملكي، وليس أصعب مِن التَّأسيس، وحافظت العهود التي لحقته على ما أسس، وظل العِراق وطناً، إن كان النُّفوذ لأهل اليسار أواليمين، مع تفاوت الموجعات والمسرات، استمرت دولةٌ لا تعطي شبراً لغيرها، ولا تسمح بمنع قطرةَ ماءٍ عنها، إلا العِراق الدَّعويّ فرط بكلّ شيء، والسَّبب أنّ الانتماء إلى ما يرقص له حزب ذوبوا مِن نظام ولائي، لا يشترط العِراقيَّة. ستقولون: الغزو الأميركي (2003) مسح الدولة مِن الوجود، فلماذا تتهمون «الدّعوة» وحواشيه مِن الإسلاميين؟! 
صحيح، ولكن استماتة حزب «الدَّعوة» وحواشيه على استمرار إلغاء الدولة تعدى الغزو نفسه! أرأيتم كيف سُلمت الموصل وبقية بقاع العراق (2014)، في ليلةٍ قمراء وليست ظلماء، فالجميع شاهدوا رتل العربات، كيف دخلت، وكيف خرج الجيش، وكان أمين «الدَّعوة» رئيساً للوزارة وقائداً عاماً ووزيراً للدفاع والدَّاخلية والأمن، ومع ذلك لم يُسأل عن الخيانة العظمى! 
عودة إلى بدئه، وحكاية عنوان المقال، فما علاقة العِراق بما عددتُ مِن إنجازات غيره؟! يغلب على الظَّن أنَّ كلَّ عراقي، ملأ قلبه الحزن وخاطره الانكسار، سيسأل نفسه: ماذا عند السّعودية مِن زائدٍ على العِراق لتُقيم مدينة «نيوم»، الأكبر في الاقتصاد والتَّنمية؟ وماذا عند الإمارات لتُقيم «إكسبو»، وقد ألقى فيه ملوك ورؤساء العالم خطبهم، تسبقهم الدّهشة مِن حُسنِ البناء؟ ماذا عند قطر كي تستضيف «المونديال»، غير «تصالح العقل والثَّروة» حقق النَّجاح الخرافي في الإنجازات الثّلاثة! 
ترى المتحمس للديمقراطية ينطفئ حماسه، عندما لا يأمن على نفسه وأهله، ولا يخرج مستمتعاً بنظافة الطّريق، ويرى «اللصوص يمشون بثياب التُّجار» (ابن الجوزي، المنتظم)، حتى أصبح الفساد محموداً؟! شاهدنا الرَّجل النَّجفي، وقد تخطى حدود الطائفية، بما أنّه يعتبر خطيراً وتجاوز حدود المكان حيث النَّجف، وهو يقول: لو «أنَّ الوهابية تسوي العِراق مثل السّعوديّة، بناء، ونظافة، وأمن وتعليم، ونهضة، فأشهد أنا وهابيّ».
لا أظن أنَّ الرَّجل عرف الحُسين بن الحجَّاج (ت: 391هج)، كي يتمثله في اعتبار مصلحة الإنسان أولاً، وللقارئ المقابلة بين قول النّجفيّ اليوم، وقول ابن الحجَّاج في الأمس، عندما غلت المذهبيَّة وصارت المواكب تتصادم وسط بغداد، يوم أصبح الغدير عيداً وعاشوراء يوماً حكومياً، فرد الطّرف الآخر بعيد «دخول الغار»، وزيارة ابن الزُّبير (مسكويه، تجارب الأُمم)، حتَّى أطربت مصارع القتلى البويهي الفارسيّ والسُّجوقي التُّركيّ. 
قال ابنُ الحَجَّاج: «مرَّ بي يومَ جُمُعةٍ شيخانِ: علويُّ وآخر عُثمانيّ/ قال هذا بعد النَّبيِّ عليٌّ/ ودعا منصفاً إلى البرهانِ/قال هذا: بعد النَّبيِّ أبو بك/رٍ وجاءا إليَّ يستفتياني/ قلتُ: خيرُ العِباد بعد رسول ال/لّهِ في مذهبي أبو الرَّيانِ/خَيرُهم مَن رأى لباسي قد/رثَّ وبان اختلاله فكساني/ هكذا مذهبي وهذا اعتقادي/ وبهذا المديح يجري لساني» (الأسطرلابيّ، دُرة التَّاج مِن شِعر ابن الحجَّاج). صاحب هذه الرُّوح وحده سيبني العِراق، ويطوق الكراهية باسم المذهب، سيتمكن مِن نيوم وإكسبو ومونديال عراقيات. أيها النَّاس: العِراق «جوهرة» لكنها بيد «فحام»، والعبارة عنوان كتاب لتركي الدِّخيل عن اليمن. 

* كاتب عراقي