إذا فقد الإنسان هويتَه الأخلاقيةَ، فقد بوصلتَه الموجهةَ لشؤون حياته، وبالتالي لن يعود قادراً على توجيه سلوكه، مما يشكل حافزاً لتثبيت رؤية واضحة حول تلك الهوية. وربما يصعب إيجاد «هيكلة قيمية» جاهزة نحذو حذوها في السلوك الإنساني، وذلك لنسبية المُثُل الأخلاقية في ذهن الإنسان، ففي حين يفضل شخص اتخاذ مفكر أو فيلسوف مثالَه الأعلى، يرى آخر أن جل طموحه يكمن في الاقتداء بلاعب رياضي أو رجل دين أو غيرهما.. وبالتالي فالأجدى هو اتخاذ موقف جمعي يتفق على أساسات «النموذج الأخلاقي والقيمي»، بحيث لا يخرج عن تقديم الطاقة القصوى الساعية لتحقيق الخير والتزام شروطه من أمانة وصدق وعدم التعدي على الغير.

ولأن ذلك له احتمالات واسعة، فمن المتعين الإشارة إليها من باب بناء الوعي بما تعنيه «الفضيلة»، التي حملت معنى حسن الخلق الذي يختاره الإنسان خارج إطار الواجب والإجبار، ويقدمه بحسب الموقف والمكانة الاجتماعية والحالة الخاصة وما تقتضيه.

والفضائل شبكة مترابطة لا تنفصل حد الانقسام ولا تلتحم حد التشابه، فعند الحديث عن الأمانة فإن ذلك يتداخل وأحد أسباب إقامة العدل، لكن لكل منهما سياقاً مختلفاً. ويقدم في ذلك الفيلسوفُ اليوناني سقراط تعبيراً أكثر شمولاً، إذ يعتقد أنه «لا فضيلة إلا المعرفة»، وبالتالي فإن كل ما يعاكس الفضيلة أو ما يطبق من سلوكيات لا أخلاقية، هو بفعل الجهل حول حقيقة الخير والشر وما ينتج عنهما. فالجهل منشأ الخطأ، والمعرفة وسيلة لنشر الخير.

وفي معنى شبيه يقول الجاحظ: «لكلٍّ نصيبٌ من النَّقص، ومِقْدارٌ من الذُّنوب، وإنَّما يَتَفَاضلُ النَّاسُ بكثرةِ المحاسن وقلَّة المساوئ، فأَمَّا الاشتمال على جميع المحاسن، والسَّلامة من جميع المساوئ، دقيقها وجليلها، ظاهرها وخفيِّها، فهذا لا يُعْرَف».

ولم يتوقف افلاطون عند حدود المعرفة، لإقامة الفضيلة، بل اعتمد ثلاث نقاط رئيسة تشكل أعمدة تقوم عليها بنية الفضائل، وهي قوة العقل باعتبارها منبع الحكمة، وقوة الغضب وبضبطها تكون الشجاعة، وقوة الشهوة التي بتأديبها تتحقق العفة.. وبالتالي فهذه العوامل إن اجتمعت شكلت بلورة واضحة للعدل الذي يمثل نواة الفضيلة. وفيما إذا استطاع الإنسان تربية نفسه على كبح شهواته وإشباعها بميزان العقل، تتحقق أساسات الفضيلة من وجهة نظر آرسطو الذي آمن بضرورة «تسليم زمام الشهوات للعقل كي يقودها»، مع الحذر من الوقوع في فخ استئصال الشهوة وإهمالها المطلق، أو المبالغة في إشباعها وتسليمها دفةَ قيادة الإنسان والتحكم به.

وبالتالي فالفضيلة تمثل منزلةً وسطى بين «رذيلتين»، وما ينجي من الوقوع فيهما هو حسن الموازنة والاعتدال بينهما، فالشجاع محاط بقلق تهور وجبن، فكل فضيلة تسير بحذر خوف الانقياد نحو إفراط أو تفريط.

وفي حين لم يحبّذ بعض المحدثين فكرةَ توسط الفضيلة، فقد قسّموها إلى صنفين؛ فضائل شخصية كالقدرة على ضبط النفس والتحكم بالغضب وتنظيم الذات، وفضائل اجتماعية عامة تنظم علاقة الإنسان بمن حوله كالعدل. وإن كانت الفضيلة مختلفة المرامي الدلالية، فإنها لا تخرج عن إرادتها للخير، وبالتالي فإنها بحاجة لمنهجية تتجاوز الوقوف على تفكيك الماهية، وتنتقل لخطة إجرائية معاشة، وثقافة معرفية جامعة لمبادئ الفضائل وكيفية احترامها.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة