في عام 2014 شاع الحديث عن «النموذج التونسي» لنظام سياسي جديد للحكم نتج عن حوار بين أربعة أطراف تمثّل المجتمع المدني، وأثمر دستوراً أقرّه «المجلس الوطني التأسيسي»، وهو البرلمان المنبثق عن الانتخابات الأولى بعد «انتفاضة 2011»، وقد هيمنت عليه قوى المعارضة السابقة وأنتجت ما عُرف ب «حكم الترويكا» الذي أدى فشلُه إلى البحث عن صيغة تشاركية أخرى. قام «النموذج» على توافق سياسي بين رأسَيْ القوى الحداثية والإسلامية، وتمثّل بنظام برلماني تَكُون فيه لرئيس الجمهورية صلاحيات رمزية ومحدودة.

استطاع هذا النظام أن يصمد بصعوبة طوال خمسة أعوام وبفضل الشخصية المخضرمة للرئيس الباجي قائد السبسي، لكنه اهتزّ بوفاته في عام 2019، وما لبثت انتخابات ذلك العام أن أعادت خلط الأوراق فجاءت ببرلمان مشرذم غير قادر على إدارة الحكم، وبالرئيس قيس سعيّد الآتي من خارج الأحزاب والوسط السياسي.

ورغم أن معظم أحزاب البرلمان كانت قد أيّدت انتخابه، إلا أن التعايش بين الطرفين لم يدم أكثر من عامين. في الانتخابات التشريعية التي جرت يوم 17 ديسمبر الجاري عادت تونس إلى ما قبل «انتفاضة 2011» التي منحتها صفة «مهد الربيع العربي»، وقد فقد هذا «الربيع» كلَّ بريقه وتبدّدت الآمال التي عُقدت عليه في مختلف الأقطار التي انتقلت عدواه إليها. فثمة من يرى أن البرلمان الجديد سيكون، بموجب الدستور، صُورياً سواء بوظيفته الرقابية أو بالصلاحيات المحدودة التي تُركت له. وبذلك يعود إلى ما كان عليه خلال نظام ما قبل 2011 أو حتى أقلّ، فيما تعود كلّ الصلاحيات إلى الرئيس تشريعاً وتنفيذاً.

لم يأت هذا التغيير بالتوافق مع «الرباعية» المتوّجة بجائزة نوبل للسلام (الاتحاد العام للشغل، اتحاد الصناعة والتجارة، رابطة حقوق الإنسان، ونقابة المحامين)، والتي غابت عن الواجهة، بل لعب الرئيس سعيّد الدور الأول في هندسته مستنداً إلى قاعدة شعبية ما تزال ناشطة، وبالأخص إلى القوى الأمنية والعسكرية التي انطوى دعمها الثابت للتغيير على دلالات عميقة لقلقها من تفشّي الفوضى والفساد.

وفي دفاعه عن «الإجراءات الاستثنائية» التي اتخذها، كرّر الرئيس سعيّد خلال وجوده في واشنطن أخيراً لحضور القمة الأميركية الأفريقية، أنه وجد نفسه في 25 يوليو 2021 أمام حالٍ من «الحرب الأهلية»، وبالتالي كان «مضطرّاً» لإقالة الحكومة التي تتجاذبها أحزاب البرلمان ولا سيما أكبرها (حزب «حركة النهضة» الإخواني)، ومن ثمّ لتجميد البرلمان ثم حلّه بغية الانتهاء من «الفوضى»، كما اضطر لـ«تطهير» القضاء «لقطع دابر الفساد».

لكن العواصم الغربية لا ترتاح للعمل مع دولة ما لم تكن حكومتها فاعلة وبرلمانها حيوياً ومتمتّعاً بتمثيل شعبي حقيقي. وإذ تحتاج تونس إلى مساعدات خارجية ملحّة، فإن الأمر لا يعتمد فقط على «تفهّم» حجج الرئيس، وإنما على معايير أبرزها الاستقرار الأمني وكفاءة الحكم في تفعيل الاقتصاد وإنجاز الإصلاحات المطلوبة للحصول على مساعدات.

ومن المتّفق عليه أن الانتخابات لن تغيّر شيئاً في معطيات الأزمة؛ فمن جهة هناك ميراث التخبّط السياسي طوال العشرية الماضية، ومن جهة أخرى هناك الوضع الاقتصادي والاجتماعي الشائك، بالإضافة إلى تداعيات التوجّه نحو التعامل مع خطة صندوق النقد الدولي. قبل 2011 شهدت تونس استقراراً سياسياً واقتصادياً شكليين أدّيا إلى الانتفاضة الشعبية، ومذّاك وهي تواصل البحث عن الاستقرار.

*كاتب ومحلل سياسي -لندن