هل يعدّ مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة والذي تمثله 47 دولة من مختلف قارات العالم مجلس حوارات ونقاشات، أكثر من كونه جهازاً مؤثراً في نصرة حقوق الإنسان؟ فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان جاء لينتصر لجميع البشرية دون استثناء، وهذا ما هو مكتوب في الوثائق. وأما على أرض الواقع فالصفحات الأهم لم تكتب ولم تعش سطورها بعد، كما قد يشوب تلك الدعوة قصر النظر عندما نتحدث عن فصل حقوق الإنسان عن حقوق باقي الكائنات!
ومن جانب آخر، تتمركز حقوق الإنسان في العالم النيوليبرالي حول عالمية الديمقراطية الغربية، وربط صورها السردية بسياقها النصي والذهني، دون ذكر أن الديمقراطية التي يتحدثون عنها تقوم على فرض القوة العسكرية والاقتصادية والتقنية والمعرفية في نهاية المطاف، ومبدأ الغاية تبرّر الوسيلة، وأن مصالح الدول التي تقررها تلك الحكومات المنتخبة تأتي فوق حقوق المجتمعات والأفراد وهي حقيقة ثابتة لا مناص منها، وهم يرون من هذا المنطلق أنه يتعين على الأنظمة الأخرى قبول منطق الرأسمالية وقبول أيديولوجية الديمقراطية وفق عقائد شؤون دولية إقصائية، ولتقوّض بالتالي متغيرات فساد الفكر السياسي المعاصر جوهر إدارة العدالة الدولية.
فالعديد من الممارسات في حقوق الإنسان اليوم تخصّ ولا تعمّ، وترى نصف الكأس الممتلئة على أنها ليست ذات الكأس التي نصفها فارغ، بل والذهاب بعيداً لتحييد من لم يقبلوا بتلك المنطلقات ويتم تقزيمهم وقصفهم وتصفيتهم حضارياً، والسعي بالتالي إلى تضخيم قيمة تلك الممارسات بما يعزّز أو يحافظ على قيم ثقافتهم كمعيار أخلاقي لبقية العالم، والتشدّق بأن المزيد من الحقوق يعني مزيداً من الحرية، وهي فكرة تشبه تماماً فكرة أن طباعة المزيد من الأموال تعني المزيد من الثروة للدول وأفراد المجتمع!
وإذا كانت تلك الدول تهتم حقاً بحقوق الإنسان، فلا ينبغي لها أن تشن حروباً حول العالم أسفرت عن سقوط ملايين من الضحايا المدنيين، وتفكيك الأسر وتشريدها وتخريب اقتصادات الدول، قبل أن يعودوا وينهبوا المجتمعات كقطّاع طرق معاصرين يرتدون الياقات والبدل الفاخرة، وكل ذلك تحت مسوّغ قانوني هم ابتدعوه وهم من تركوا فيه نقاط الضعف الخفية التي لا يعرف أسرارها سواهم، ليستمر نشر الدمار والفقر ومحاصرة الحكومات التي تقف في وجههم، أو تجرؤ أن يكون لها رأي مخالف أو أن تضع مصلحتها كدول أولاً. وكل ذلك يقومون به لضمان مصادرة الموارد التي تكفل لهم البقاء والنمو، دون وجود ما يهدد تفوقهم ومستوى المعيشة الذي يحظون به الآن ويحلمون به في المستقبل.
فلماذا لا نسمع ضمن ممارسات حقوق الإنسان أن البلدان الغنية الغربية الكبرى تقدم المساعدة التقنية والمالية الكافية غير المشروطة وغير المرتبطة بأجندات سياسية ومصالح أممية للبلدان النامية لمساعدتها على تحقيق التنمية المستدامة؟ وتضييق الفجوة بين الشمال والجنوب، والقضاء على الفقر والجوع على نطاق عالمي؟ والتخلي عن «القومية» الخاصة باللقاحات والأدوية العلاجية على سبيل المثال؟ وأين حقوق الإنسان من ترك المهاجرين للقارة الأوروبية يواجهون مصيرهم في لج البحار وإغلاق مراكز استقبالهم؟!
فهل سمعتم يوماً بأن المحكمة الجنائية الدولية حاكمت مسؤولاً يمينياً متطرفاً أوروبياً أو أميركياً يجيّش المجتمعات، ويعلن صراحةً أن حقوق الإنسان هي لفصيل معين من المجتمع دون سواه؟ وفي حين أن المبادئ الليبرالية للتنوير الأوروبي هي الرائدة في العالم، فإن المبادئ الموازية لها قد طمست تماماً بدعوى أن البشرية منقسمة بشدة إلى تسلسلات هرمية وحضارية، وهي محاطة باستراتيجيات الردع عن طريق تصنيف المنافسين، وصناعة الأعداء واستراتيجيات الاحتواء بربط المصير، وتسخير مبادئ حقوق الإنسان ضمن أهداف ومصالح السياسة الخارجية للدول العظمى، مما يعمّق الشرخ في جدار الوعي الإنساني أثر عولمة توجهات وقناعات المجتمعات البشرية دون أن تشعر بهول ذلك، وهناك فقط نستطيع أن نزعم أن تفاصيل الشيطان تنام هادئةً.
* كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات