ثراء وتفوق في المجال التقني والمادي يعلنه واقعُ العصر مقارنةً بما سبقه من عصور، فقد حمل معه الكثير من صور الازدهار، مما ولد حالة انبهار إزاء معظم الجوانب الدقيقة الماسة بمعيشة الإنسان وصورها. 
وقد مثلت النجاحات الفارقة للإنسان وتطوير ابتكاراته حالةً إجبارية من الحركة المستمرة داخل زوبعة تجديد وابتكار ماديين، كما جلبت معها إحدى أعظم التحديات متمثلةً في المراهنة على قدرة الإنسان على صون المنظومة الأخلاقية التي تحاول بشق الأنفس النجاة من بركان المصالح والمنافع الذي بات يأكل الأخضر واليابس. وقد لا نبالغ إن قلنا إن تحدي الوجود الأخلاقي صعب ودقيق، لكن النجاح فيه يعني حقن دماء «الضمير الإنساني» الذي يشكل محركاً مركزياً للسلوك. ولذا نجد أن هناك فروعاً لهذا الضمير، الذي فسره مُعجم المعاني الجامع بأنه الاستعداد النفسيّ لإِدراك الخبيث والطيب من الأعمال والأَقوال والأَفكار، والتفرقة بينها، واستحسان الحَسن واستقباح القبيح منها. 
شكل الصراع بين أكبر قطبين تحدثا حول قضية الأخلاق في القرن التاسع عشر، وهما كارل ماركس (فيلسوف المادية) وفريدريك نيتشه (فيلسوف القوة)، حلقةً متسعة لطرح التناقضات ومناقشة الأبعاد المحاطة بالاستفهامات، لكنها ربما وقعت في فخ الدلالات أو آليات التعبير الدقيقة، ففي حين يرى ماركس أن الأخلاق هي مجرد صناعة بأيدي الأقوياء والمترفين وجدت بغرض استعباد طبقة الضعفاء والمعدومين، فإن هذه النظرة جرَّدت الأخلاقَ من حسها الإنساني وتركتها بين أسهم القوة الاقتصادية البحتة، رغم أن تأثيرها القوي قد يكون مقنعاً لو ابتعد عن الاستيلاء الكلي لما تعنيه الأخلاق من معنى. فالقوة المادية التي جعلها ماركس رأس الهرم في تصريف القيم الأخلاقية وتشكيل ملامحها، هي ذاتها التي فسرها نيتشه باعتبارها رأسمال الفقراء والضعفاء في تسويغ مشروعية الاحتيال المنفعي والمصلحي من الطبقة القوية، وبالتالي فقد خلطت الدلالات المفاهيمية المتعلقة بالأخلاق والقيم مع التحليل المنطقي لاتجاهات التفكير الإنساني في ضوء موازين القوى وطبقات المجتمع. 
إن الفصل التام بين المادي والأخلاقي، هو محاولة لفصل وجهيْ العملة (الصورة والكتابة)، بدليل ارتباط المفهوم العميق لبحوث الأخلاق بالسلوكيات التي تتحكم في اتجاه عصب المادة، إذ تمثل الأخلاق لدى الفيلسوف فولكيه مجموعةَ قواعد السلوك التي يتحقق بمراعاتها بلوغ الغاية، كما ينظر جاكس لعلم الأخلاق على أنه العلم الذي يبحث عن السلوك الإنساني كما ينبغي أن يكون. 
إن الخطر الحقيقي في عدم إدراك حدود الصراع بين المادية والقيم الأخلاقية يكمن في هيمنة قوية لا يمكن استمرارها دون وعي، وفي مثال على الاتجاه لفصل الأخلاق عن السياسة، على سبيل المثال لا الحصر، نجد أن المفكر الجزائري مالك بن نبي، رحمه الله، يقول: «إذا كان العلم دون ضمير خراب الروح، فإن السياسة بلا أخلاق خراب الأمة». وبالتالي فإن النهضة هي إثبات نجاح الإنسان وتفوقه، أي إثبات إرادته الوجودية، لا سيما أن كل أدوات التطور والتقدم لا تغني عن الأساس القيمي المحفِّز للارتقاء بالإنسان على نحو صحيحة، ولا تملأ فراغَ الحس الروحي والوجداني الذي يتلاقى وأسباب تكامله في مضمار الترجمة القيمية (السلوك). 

إن الهوة بين المادي والأخلاقي، وضرورة التوفيق بينهما، تشبه تماماً الصورة المتخيلة لـ«هوس» الصناعات النووية إذا ما تجردت من عقلنتها الخلقية، وفي ذات الوقت فإن الانكباب على المناداة بالأخلاق كفضائل نظرية لا يصاحبها الفهم والإدراك الذهني، يؤدي لكارثة أشبه بـ«موجة التطرف والإرهاب» التي تخفّت وراء مزاعم الفضيلة منتحلةً شعاراتٍ دينيةً مسلوخة عن سياقها الحقيقي. وبالتالي فالإنسان في الحالتين، أي متجرداً من أخلاقه أو متخلقاً دون تأطير عقلي متوازن.. يصبح مهلكةً لذاته ومحرقةً لوجوده.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة