ندخل مواسمَ أعياد الميلاد في العالَم، ومع تلك المواسم تبدأ مواسمُ جدل موازية تصل إلى حد تكفير مَن يهنئ المسيحي بالميلاد، ويصبح الجدلُ عاصفةً موسمية متجددة.
جل ما يحتاجه العالَمُ العربي هو حركة إصلاح في الوعي تبدأ من المواطن العربي نفسه؛ إصلاح في الوعي يتطلب لحظةَ مواجهة حقيقية مع الذات وقبولا للآخر ومراجعةً للموروث الثقافي، وإعادة قراءة حقيقية مدججة بالفهم لبعض ما تمت محاكمته في التاريخ، واعتبار كثير مما سلف تراثاً لا أكثر ولا أقل.
لا أحد ضد العقيدة أياً كانت، بل إن حرية العقيدة، أياً كانت أيضاً، متطلب موضوعي لتأهيل الإنسانية فينا. لكن الاعتقاد بفكرة التفوق على الآخرين هي المرفوضة، تلك الحالة الذهنية التي تعكس نفسَها في الخطاب والسلوك وتصل إلى حد اعتبار قبول الآخرين تفضلا ومنةً. في عالم عربي أغلبيته مسلمة، لا ينبغي السماح بالوصول إلى مرحلة يخرج فيها التطرف رافعاً رأسَه ومعلناً عدمَ جواز التهنئة أو الترحم على غير المسلمين، دون أن يجد له رادعاً. لكن القبول أصلا تم ترسيخه كتفضل وتمنن من القوي على الضعيف، من الأغلبية على الأقلية.
لا يخطئ قراءةَ ذلك أحدٌ «ووعيه بكامل الأهلية الإنسانية» في عالمنا العربي؛ فالتهنئة بأعياد المسيحيين كل عام تدخل جدليتها الموسمية بين جواز ذلك أو عدم جوازه، بحوارات مخجلة ومحرجة وجارحة. وفي أعياد المسلمين نجد أن المسيحي (وهو بالمقابل غير ملزم بأن يهنئ أو يشارك) يضع عبارات التهنئة المدعَّمة بالقرآن الكريم والحديث الشريف، ربما كفاً لشرِّ التطرف!
مجدداً، أُعيد وأُكرر أنه في عالمنا العربي، فإن قراءتنا للتسامح الديني ينبغي أن يحل محلَّها التسامحُ الإنساني. ويجب في تسامحنا المفترض كبشر، أن نتخلى عن ذهنية التفوق التي تقود إلى التعصب الأعمى.
إذ حتى التسامح يصبح مشوهاً إن كان مشوباً بعقدة، وتحميل هذا الإنسان المسكين (مسلماً كان أم غير مسلم) كلَّ أثقال التاريخ المرسوم رسماً على قياس نخبة رجال الدين وسدنة المعابد.
كنتُ قد تحدثتُ في الموضوع مع ذوات أثق بهم وأعرفهم، وكان سؤالهم لي محملا بالاتهام ومفاده: لماذا تصر على تضامن نراه أعرجَ لديك، لا يمشي بتوازن مع المسلمين مثلما مع غيرهم؟
أجيب فأقول: باسمي وباسم غيري «ممن ورثوا تفوقاً عددياً وأغلبيةً جماعيةً» ويدافعون بشراسة عن إخوانهم في الإنسانية ولا يرون فيهم أي آخر: إن الإعلان عن التضامن مع مسيحيي المشرق العربي أو ضحايا الإرهاب من الشيعة أو السنّة أو الدروز أو الإيزيديين أو أي أقلية شاء لها حظ إنسانيتها أن تكون حاصلَ فرق الانتصارات التاريخية.. إن مَردَّ هذا التضامن هو خجلنا من عبء ألقاه التاريخ على كتفنا دون موافقتنا ولا حتى الأخذ باعتراضنا.
والاعتراض، بكل أسف، غالباً ما يصبح كفراً في شرق متخم بالمقدسات، أو خيانةً وطنية في ذات الشرق الضاج بالأصوات المتطرفة.

*كاتب أردني مقيم في بلجيكا