جميع الأديان، في جوهرها، عنا نحن، عن أناس حقيقيين يعيشون في العالم، يحاولون فهم فرحهم وحزنهم ومخاوفهم وآمالهم. تعلمنا قصص الكتب المقدسة، عند تصفيتها في رسالتها الأساسية، دروساً جميلة حول الكيفية التي يجب أن نرى بها حياتنا. وقصة الميلاد، على سبيل المثال، تدور حول ولادة المسيح، لكنها أكبر من ذلك بكثير. وإذا أنصت المرء باهتمام إلى قصص الكتب المقدسة (في المسيحية والإسلام) ووضع أناساً حقيقيين في القصة، فإن الحياة تدب فيها وتتحدث عن واقع الولادة العميق الذي يمثل تحولاً. 
وفي تصور فيلم «الليلة الصامتة» عن قصة ميلاد المسيح، تبتسم السيدة مريم، بينما يحوم يوسف النجار فوق الأم والطفل حامياً لهما. وتوفر الحيوانات الدفء وتردد الملائكة التراتيل. وكل شيء نقي ومشرق. وإذا أخذنا في الاعتبار الظروف الفعلية للولادة، تظهر قصة مختلفة تماماً، فقد سافر يوسف والسيدة مريم من الناصرة إلى بيت لحم لأنه كان مطلوباً منهما الامتثال لمرسوم إمبراطوري ليتم إحصاؤهما في تعداد السكان. والرحلة التي امتدت 80 ميلاً تم قطعها سيراً على الأقدام وعلى ظهر حمار وكانت شاقة وطويلة، واستغرقت خمسة أيام على الأقل، ومع حمل مريم في شهرها الثامن، لابد أنها كانت رحلة مروعة ومؤلمة للغاية. 

وعند وصولهما إلى مقصدهما لم يجدا مكاناً، وأُجبرا على النوم في حظيرة حيوانات، وهو ما يعني في بيت لحم كهفاً لإيواء الحيوانات. ولا بد أنها كانت تجربة قاسية وصعبة. عند هذا الحد، تصمت قصص الأناجيل، وهكذا يقفز خيالنا، افتراضياً، من وصولهم إلى بيت لحم إلى مشهد مريم وهي تحمل الطفل. لكن القرآن الكريم في سورة مريم يزودنا بالجزء المفقود من القصة، وهو جزء يتفق مع تراث المسيحية غير المكتوب. فمع اقتراب موعد الولادة، تخرج مريم من تلقاء نفسها حين يأتيها المخاض، إلى جذع نخلة وتصرخ «يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسيا». لقد كانت فتاة صغيرة خائفة وحيدة تتألم. وبعد أسابيع من الخوف على حياة المولود الجديد بسبب الحاكم الروماني، هيرودس الغاضب، أُجبرت مريم ويوسف على الفرار إلى مصر. مرة أخرى سيراً على الأقدام أو على ظهور الحمير وعاشت الأسرة في المنفى لسنوات. وبالنظر إلى كل هذا، وبدلاً من الأسطورة النقية المثالية، نواجه حقيقة مختلفة تماماً. فهناك طفل وُلد لامرأة خائفة ومرهقة.

وقبل بضع سنوات تلقيت مظروفاً يحتوي على ما يبدو أنه بطاقة تهنئة بالعيد من وليد جنبلاط، الزعيم الدرزي اللبناني. لكن عند فتحه، صدمت عندما وجدت صورة لطفل بائس يحدق من خلال حطام مبنى مدمر. وفي الداخل، كُتب على البطاقة «تذكروا بائسي الأرض». وجفلت من هول صورة الحزن والألم تلك بعد بطاقات فرح أخرى تلقيتها. ولازمت صورة ذلك الوجه الصغير مخيلتي. وفكرت في وجه مريم المتعب والقذر في نهاية رحلتها على طول طرق فلسطين الترابية، وفي خوفها وألمها، وفي تلك العائلة الصغيرة التي تهرب إلى مصر. لقد كانوا بؤساء الأرض. وما خطر ببالي بعد ذلك هو مئات الفلسطينيين الذين يولدون كل يوم في بؤس غزة المدمر أو في المنفى في مخيمات اللاجئين. وفكرت في الأطفال المولودين للاجئين سوريين في مخيماتهم في لبنان والأردن وتركيا أو في أوروبا. وفكرت في أولياء أمورهم الخائفين والقلقين على سلامة أطفالهم حديثي الولادة وعلى بقائهم على قيد الحياة. وشكرت وليد جنبلاط على تذكيري بما يجب ألا ننساه أبداً. 

ويجب ألا نجرد قصة عيد الميلاد من إنسانيتها. فواقعيتها تركز انتباهنا على مسؤوليتنا في أن نرى في ولادة المسيح وجوه الفقراء الذين لا مكان مبيت لهم وأن نرى التعساء الذين لا يجدون راحة والمنفيين الخائفين الذين لا يبتغون إلا مأمناً وملجأ. حينذاك فقط يمكننا أن نفهم قصة وروح ميلاد المسيح. وحين نترنم بأغاني الفرح الموسمية، يجب أن نفكر فيها ليس على أنها تصوير للواقع، بل باعتبارها إلهاماً لرؤية عالم نطمح أن نقيمه لجميع الأطفال، أطفالنا وأيضاً أطفال البائسين والخائفين الذين غالباً ما يُنسون. 

*رئيس المعهد الأميركي العربي- واشنطن