وُجِدت في دول المنطقة العربية حكومات متعاقبة، كلها نابعة من شعوبها وبلدانها، وتعود لمختلف القوميات والطوائف والأطياف السياسية. وتارة كانت حكومات عسكرية وتارة أخرى كانت حكومات حزبية أيديولوجية عقائدية. كما حدثت في هذه الدول انقلابات كثيرة، عسكرية ومدنية، حزبية ومستقلة (وطنية وقومية)، حيث كانت تتم إذاعة البيان رقم واحد من خلال الإذاعة والتلفزيون الحكومي، ليعلن أنه تمت «إزاحة النظام البائد والمتسلط على رقاب الشعب، والذي كان ينفرد بالسلطة لوحده بشكل قمعي وديكتاتوري، ولا يقبل المشاركة في الحكم إلا لزمرته فحسب.. واليوم نعلن أن الحكم من الشعب وللشعب.. ليتمتع الشعب بحرياته بكل ديمقراطية وأمن وأمان واستقرار ورخاء»، أو ما في معناه! لكن سرعان ما يتضح أن الوضعَ الجديدَ أسوأ مما سبقه، وأن ما قيل هو استهلاك محلي وخدعة للوصول إلى السلطة وخداع للشعب الذي صدَّق البيانَ وصفّق له متوهِّماً التغيير! وعندها يبدأ الشعبُ يتأسَّف على إزاحة النظام السابق ويترحَّم عليه، إذ كان ذلك النظام محافظاً على البلاد وعلى سيادتها ووحدتها وكرامتها وأمنها واستقرارها.. رغم قبضته السلطوية. كان محافظاً على وحدة الوطن وحدوده، ولم يسمح لأحد بالتدخل في شؤونه الداخلية، لذا فقد أقام أركانَ دولة قوية متماسكة ومنسجمة مع نفسها، تهتم بالتعليم والصحة وتأمين الغذاء والماء والكهرباء.. وإن نظر إلى موضوع الحريات السياسية باعتباره من الكماليات غير الضرورية، بل من المساحيق التجميلية الخادعة في الوقت الحالي على الأقل، إذ تتطلب المرحلةُ تأسيسَ دولة وطنية عصرية قبل كل شيء، وتقويةَ وحدتها الداخلية كي لا تنهشها الذئاب ولا تعوي حول أسوارها الكلاب!وبعد أن حلّ ببعض الدول العربية ما حلَّ جراء «الربيع العربي» المشؤوم، والذي أزاح أنظمةً كانت تحكم هذه الدول ولا تقبل لأحد بالتدخل في شؤونها الداخلية، أصبحت العديد من هذه البلدان ساحةً مفتوحة للتدخلات الأجنبية، وتم تقزيمها بالتناحرات والمحاصصات الطائفية والقبلية والعرقية، وأصبحت هناك عواصم عربية مستباحة للسلب والنهب والتصفية والاغتيال وإشاعة الفوضى وتفشي الإرهاب وضياع الهوية وانفراط المصير. 

واليوم نقول لتلك الأنظمة: عذراً! فقد اتضح الآن أنها كانت قوة صد وصمّام أمان، وذلك بفضل صرامتها في بسط الأمن وتنفيذ القانون على الجميع. كان الكل في عهدها يخضعون للقانون ويعيشون بأمن وسلام وفي استقرار. كان الأمن مضموناً، وكذلك خدمات الصحة والتعليم وإمدادات الغذاء والدواء والماء والكهرباء.. كلها كانت متوفرةً للجميع بلا تفرقة أو تمييز. 

لذا فعلى مَن أزاحوا تلك الأنظمة بحجة البحث عن الديمقراطية أن يذهبوا اليوم إلى مخيمات اللاجئين والنازحين الذين يتسولون المنظمات الإنسانية كسرةَ خبز تَسدُّ جوعهم وقطعةَ قماش تخفف بردهم.. وأن يزوروا المشردينَ على أرصفة الشوارع في مدن الدول الأوروبية كي يوفروا لهم الدفء والمأوى. هؤلاء أيضاً أرادوا الديمقراطيةَ فكان نصيبُهم منها حياة التشرد والبؤس! وبدل الأنظمة التي طالما وصفها بعضُنا بـ«الدكتاتورية»، جاءت إلى الحكم في تلك الدول مليشيات طائفيةٌ وقبليةٌ مسلحة لا تقبل أن يناقشها أحد، وليس لديها من أساليب الحوار الحضاري والتسوية الديمقراطية إلا الاعتقال والبطش والتهجير والتفجير والقتل على الهوية.. ولو على مرمى حجر من أبواب مكاتب المنظمات الدولية!

*كاتب سعودي