لقد ارتبطت الدهشة الملازمة لصورة الغرب الحضارية في تطورها التقني والإنتاجي والسياسي بـ«دهشة أخلاقية»، في التصرفات والسلوكيات والالتزام الحازم بالقوانين والأنظمة. تلك «الدهشة الكبرى» تعاظمت دافعةً بتتالي التساؤلات حول «الوصفة السرية» لهذا الالتزام في مجتمع لطالما نُعت بالمادية، وعرف بالتزامه المناهج التجريبية دون الغوص أو الالتفات لمعطيات الوحي الإلهي في الحياة العملية.

وقد تجاوزت تلك المجتمعاتُ غيرَها من ذات التمسك والتشبث بعامل الوحي كمصدر للمعرفة وكمنبع أخلاقي حاثٍّ على الاتجاه إلى أقصى صورة ممكنة من الالتزام الأخلاقي وتطبيقه في شتى مناحي الحياة العملية والعلمية.

وامتدت الماديةُ النفعيةُ في دراسة المعطى الغربي، حتى فسر العديدُ من الباحثين الجانبَ الأخلاقي بأنه مستمد من جانب نفعي بحت، وبالتالي صور المجتمع الغربي بآلة تطبيق الفضيلة دون روح وجدانية منغمسة في كينونة هذا التطبيق الذي «من المتوقع» ربطه بعامل غيبي (الوحي) يجعل منه صفةً لازمة ومستمرةً بطبيعة استمرار العلاقة بين الوحي والإنسان (العبد بالمعبود).

وعليه تقررت الدراسةُ المقارنةُ بين السلوك الأخلاقي الغربي والعربي أن الأخير قصّر في تأدية التزامه الأخلاقي الذي وجد بالأساس ممهداً في مادته المعرفية «الدينية»، فالأخلاق جزء لا يتجزأ من أسس الفقه الإسلامي الذي يقوم عليه تصريف السلوك الإنساني، والقياس باعتباره احتراماً لظروفه الزمانية والمكانية.

والأخلاق بصيغتها النهائية سلوك! وهنا نلتفت لـ«فاعلية الأخلاق»، لا سيما أنها في الغرب تنحصر في القيمة الزجرية المتمثلة في الانصياع للقوانين والأنظمة الوضعية، بينما تتخذ لدى المسلم أو صاحب العقيدة (في الأديان السماوية) طابعاً مختلفاً، إذ هي طاعة لله وخشية منه وحب في التقرب إليه، ثم التزام بالتشريع الوضعي الذي حث الدين على احترامه وعدم تجاوزه.

إن خلاصة ما توصل له الغرب مِن معارف وتطورات يعتبر محركاً قوياً في تسيير نشاط الإنسان وتوطين قدراته واستثمار عقله، مما يعني أن الانفجار المعرفي حول الأخلاق ونظريات الأخلاق وتفسير ماهيتها وطبيعتها هي جميعها رد فعل على تأزم حياة الإنسان المعاصر واستشعاره الحاجةَ لتجاوز تحدياته الكبرى، مما يعني تحويل الثورة المعرفية إلى أحد أكبر أسباب هلاك الإنسانية نفسها! إذ كيف يكون الاسترسال العلمي في الصناعات بلا رادع أخلاقي؟ وكيف يكون التشريع المنظم لبعض مجالات البحث بلا إطار أخلاقي يعترف بالإنسانية ويصونها من المآزق المحتملة؟

إن الدهشة الحقيقية التي تأخر الإنسان في عيشها وإدراكها هي تلك التي جاءت بعد ما أثبتته الأزماتُ والتحولات العالمية من أن المشترك والمصير الإنساني أكبر دافع للانتقال من بوتقتي الأنا والآخر إلى حالة من الإيمان الجمعي بمشترك الأخلاق الإنسانية، بعيداً عن تجريد القيم وتحويلها إلى سلع تسويقية أو نفعية أو اختزالها لفئة دون غيرها.

فرغم النقد الكبير لنفعية الأخلاق في المجتمع الغربي، فإننا لا نستطيع تغافلَ ما في إجراءاتهم الفعلية من احترام كبير للكرامة الإنسانية بصورتها الواسعة. ورغم ما ارتبط «عنوةً» بالأخلاق والقيم من منظور إسلامي، فإن هناك العديد من السياقات الواجب إعادة قراءتها من جانب، ونشر تصحيح ما أشكل فيها من جانب آخر.

وبالتالي فإن الرهان الأكبر في سياق القيم الأخلاقية يتمثل في القدرة على تجميع نقاط القوة في الطرحين الغربي والعربي وتجاوز مواضع الضعف، من خلال بناء منهجية نقدية محكمة.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة