أُعلن في باريس عن رحيل آخر سراة الاستشراق الفرنسي «أندريه ميكل»، الذي عُرف بدراسته الرائدة حول الأدب الجغرافي العربي في العصر الوسيط، وبترجمته لأهم نصوص التراث الأدبي العربي (ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة وديوان مجنون ليلى).

كان ميكل من آخر تلاميذ عميد المستشرقين الفرنسيين لويس ماسينيون، لكن أستاذه الحقيقي هو «رجيس بلاشير» صاحب الدراسات المعروفة في تاريخ الأدب العربي ومترجم القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية. والواقع أن ميكل ينتمي إلى التقليد الأدبي في الاستشراق الذي يختلف عن تقليد الإسلاميات، الذي كان من شخصياته البارزة روجيه ارنالديز ولويس غارديه وماكسيم رودنسون وجاك بيرك.. إلخ.

يقول ميكل عن نفسه إنه اختار الأدب الجغرافي والتراث الشعبي، بحثاً عن تجربة العيش العربية في أبعادها الوجودية والمجتمعية العميقة والصادقة خارج قنوات الثقافة العالمة التي تلتبس بالديني المقدس.

ولذا فإن اهتمامه بتاريخ الأفكار والمعتقدات كان محدوداً، بل إنه حسب اعترافه لم يكن راضياً عن مسالك المستشرقين في مصادراتهم حول الثقافة الإسلامية، معتبِراً أن المطلوبَ هو تطبيق المناهج الإنسانية التحليلية على نصوص وممارسات المجتمعات العربية على غرار ما هو متَّبع في السياق الأوروبي.

وكان ميكل يفرِّق بوضوح بين الثقافة الإسلامية المتمحورة حول النص المقدس وتأويلاته، وبين الثقافة العربية كما تتجسد في الأدب بمفهومه الواسع، أي طُرق العيش والتعبير خارج الحيز الديني الضيق.

وبالنسبة لميكل، فقد انتهى الاستشراق مع نهاية العصر الاستعماري وانحسار الأفكار الإثنوغرافية الكلاسيكية في تصنيف الحضارات والأمم، ولم يبق أمام المختصين في الدراسات العربية والإسلامية سوى الانخراط في حركية الدراسات الإنسانية المعاصرة، ومن ثم ندرك تأثُّرَه الواسع بالمدارس التاريخية الجديدة (فرناند بروديل وجورج ديبي.. إلخ).

ومن الجلي أن أطروحة ميكل تندرج في إطار الكتابات النقدية للاستشراق التي بدأت بمقال المفكر المصري أنور عبدالملك عام 1963 في مجلة «ديوجين» الفرنسية (الاستشراق في أزمة)، ثم استمرت في أعمال عبد الله العروي وهشام جعيط، قبل أن يصدر إدوارد سعيد كتابَه الشهير «الاستشراق» سنة 1978 الذي كان الضربةَ القاضية لتقليد فكري ومنهجي ممتد منذ القرن الثامن عشر.

والخلافُ قائم حالياً على نطاق واسع حول مآلات الاستشراق، بعد رحيل رموزه الأخيرة (برنارد لويس وجوزف فان أس.. وأندريه ميكل مؤخراً). وفي الآونة الأخيرة، أصدر وائل حلاق كتابَه «قصور الاستشراق» الذي ذهب فيه مدىً أبعدَ من إدوارد سعيد الذي حصر جهدَه في الكتابات الأدبية الغربية حول الشرق، بينما دخل حلاق إلى الحقل الاستشراقي من الدراسات الفقهية والقرآنية المعاصرة.

وإذا كان إدوارد سعيد قد طبَّق نظرية ميشال فوكو في تحليل الخطاب من منظور ثنائية المعرفة والسلطة، فإن حلاق حوَّل المدونةَ الاستشراقيةَ إلى ميدان لمواجهة الأفكار والقيم الحداثية بالنظر إليها من زاوية نقد المركزية الثقافية الغربية.

لقد تزامن هذا التوجه النقدي للاستشراق مع تحولين بارزين في الدراسات الإسلامية في الغرب هما: تزايد اتجاه المباحث السياسية والاستراتيجية لفهم أزمات العالم الإسلامي، وبصفة خاصة ظاهرة الإرهاب والتطرف الديني، بما يختلف نوعياً عن مجرى الاستشراق التقليدي، والاهتمام المتزايد بالنص الإسلامي المقدس من زاوية مسارات التشكل والتدوين وفق مناهج النقدية القصوى التي نفذت إلى الإسلاميات المعاصرة من نقدية النصوص المقدسة في اليهودية والمسيحية. وفي الحالتين، يرفض الباحثون الجدد في الإسلاميات أن تصنَّف أعمالُهم في خانة الاستشراق، فهم إما علماء سياسة واجتماع مختصون بالمجتمعات العربية والإسلامية، أو مؤرخو أفكار وباحثون في الأنتروبولوجيا والتأويليات.

ويتساءل البعض: هل تشكل الدراسات القرآنية آخرَ مظاهر الاستشراق التقليدي، حتى ولو كانت أدبيات المراجعين الجدد (من نموذج الهاجرية لدى باتريشيا كرون وميكل كوك إلى نموذج الكلاسيكية المتأخرة لدى أنجليكا نويفرت) تختلف جوهرياً عن أطروحات وأفكار رائد الاستشراق القرآني تيودور نولدكة؟

من الواضح أن أدبيات المراجعين الجدد أخفقت في بناء نماذجَ تحليلية جديدة في الإسلاميات، رغم الغطاء العلمي الذي تتلبس به، وهي في أحسن الأحوال مجرد فرضيات تاريخية أبطلتها الوثائق العينية الملموسة كما يبين الباحثُ الفرنسي في الدراسات القرآنية «فرانسوا داروش». إلا أن النقد الأيديولوجي والنضالي للاستشراق، على غرار كتابات إدوارد سعيد ووائل حلاق، لا يخلو من مخاطر وهنات عديدة.

فلا أحد ينكر أهمية أعمال المستشرقين من تحقيقات ودراسات علمية، وفي حقول معينة مثل الكلاميات والفلسفة لا غنى عن مؤلفات المستشرقين الذين يرجع لهم الفضل في تحديث وتطوير الدراسات الإسلامية.