تبدو شرعية عنوان هذه المقالة في الأسئلة التالية: لِمَ أقدم موسى النّربوني على شرح رسالة «حي بن يقظان» لابن طفيل، في مجلّد ضخم، بعدما أقدم أحد أبناء طائفته على ترجمتها إلى اللغة العبرية؟ لم نجد بقايا عناصر نظرية لهذا النّص الفلسفي عند بيك دولامرندولا في رسالته «في الكرامة الإنسانية»، وهو من أوائل مؤسسي الحداثة الفلسفية؟ ما قصة ترجمة «حي بن يقظان» إلى لهجة أوروبية محلية، وهي اللغة الهولندية، والعثور على هذه الترجمة ضمن الإرث الذي تركه باروخ اسبينوزا؟ وما سبب امتداح الفيلسوف الألماني غوتفريد لايبنتز له؟ لم أقدم المستشرق الإنجليزي «إدوارد بوكوك» على ترجمة هذا النّص إلى اللّغة اللاتينية؟ ما سر ترجماته المتعددة إلى اللغة الإنجليزية واتّخاذ طائفة «الكويكرز» له بمثابة «إنجيل للتربية والسلوك» قبل أن تتراجع عن ذلك؟ ما سر ترجماته المتعددة إلى اللغة الألمانية والاحتفاء الكبير به في الأوساط العلمية؟ لم أقدم «ليون غوتييه» على ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وحقّق نصّه العربي مرتين، مرة على مخطوطة الجزائر ومرة على مخطوطة ليدن؟ ما سرّ الاهتمام العالمي إذن بهذا النّص الفلسفي العربي؟ وقبل هذه الأسئلة كلها: لم كتب ابن طفيل، هذا الفيلسوف الأندلسي – المسلم «قصة حي بن يقظان وآسال وسلامان»؟
تتجاوز هذه الأسئلة أفق هذه المقالة، لكن سؤالاً صغيراً في جِرمه كبيراً في فحواه، قد يضيء بعض جوانبها، وهو: هل يمكن أن نصل إلى معرفة الله تعالى بطريق البحث العقلي، في نجوة عن الوحي؟
أجاب ابن طفيل عن هذا السؤال بالإيجاب، فطريق معرفة البارئ تعالى يمكن أن ينفرد به العقل، وهو قول يجد أصله في التداول الإسلامي من جهات ثلاث على الأقل: الجهة القرآنية التي تجعل من النظر العقلي طريقاً إلى معرفة خالق الكون، وفي رواية أن إبراهيم عليه السلام عرف الله بالنّظر في الأجرام السماوية قبل أن ينزل عليه وحي. والجهة الكلامية التي تجعل أوّل الواجبات النّظر. والجهة الفقهية التي تؤكد انطلاقاً من تفسير آيات «الشهادة في عالم الذر» من سورة الأعراف أن الفطرة الإنسانية مُهيّأة، إذا صُرفت عنها موانعُ التّقليد والغفلة، لمعرفة الله بالأدلّة المنصوبة أمامها. ولعل هذا ما حدا بأبو الفضل عياض أن يعتبر أن معرفة الله تعالى دون واسطة مما لا يمنعه دليل العقل. 
إن أهمية النّور الطبيعي في اقتحام مجال ملكوت السّماوات والأرض، واقتناص حقائق ميتافيزيقية دون التّعويل المطلق على مدد الوحي فكرة ثورية في العصور المسمّاة بالوسطى، والتي كانت لا ترى حقيقة خارج مورد الوحي، ولعل احتفاء الغرب اللاتيني بهذا النّص العربي الفلسفي العربي الإسلامي كان جواباً على القبضة اللاهوتية الكنسية التي كانت تحتكر الحقيقة ولا تعترف بدور للنّور الطبيعي في اكتشاف معرفة، أو بنائها، أو تقريرها، فكانت ترجمة هذا النّص إلى اللاتينية بخاصة، في السّبعينيات من القرن السابع عشر مع «بوكوك»، دعامة للفكر التّنويري الذي كان يقاوم ويجابه لإقرار العقل والعلم كمصدرين أساسيين من مصادر المعرفة. ألهم نص ابن طفيل عصر الأنوار، فتعلموا منه كيف يمكن للنّور الطبيعي أن يكون أداة معرفة ميتافيزيقية، وكيف يكون أيضاً مصدراً للتشريع، وكيف يمكن أن تلبس الملةُ ثوبَ الفلسفة، لذلك زعمنا أن ابن طفيل كان ملهماً للحداثة الفلسفية.

مدير مركز الدراسات الفلسفية- جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية