تطور مبدأ المقذوفات من الحجر وصولاً للصواريخ فرط الصوتية العابرة للقارات عكس حجم التطور في أهمية أدوات الإخضاع منذ الإنسان الأول في الصراع على الغذاء إلى الصراع بين الأمم على النفوذ والموارد.

واليوم تدخل عواصم الخصوم في الأزمة الأوكرانية (موسكو بعد كييف) نطاق التهديد بالاستهداف المتبادل، وذلك بعدما تأخر الحسم العسكري الروسي في كسر إرادة الخصم باستهداف العاصمة كييف وبناها التحتية. إلا أن كافة المؤشرات تؤكد عزم كييف على إدخال حرب العواصم الحيز العملياتي عسكرياً لأسباب سياسية ومعنوية.

وفي حال قامت القوات الأوكرانية باستهداف موسكو، فإن هذا التصعيد سيغير من قواعد الاشتباك سياسياً قبل أي يغير منها عسكرياً، وسيضع عموم الأطراف أمام واقع جديد. موسكو حتى الآن لم تتوصل إلى مرحلة إخضاع كييف، والسبب لم يقتصر على الشق العسكري، بل اتصل بالشق الثاني أي الكلفة الاقتصادية وتحديداً توظيف الطاقة ضمن العناصر المتحركة ذات القيمة المادية والمعنوية، وكلنا يتذكر الطرفة التي رواها الرئيس بوتين أمام الإعلام الدولي بعد فرض الاتحاد الأوروبي حظراً على واردات الغاز الروسي. وقد رواها الرئيس بوتين في شكل حوار بين طفل وأبيه في إحدى المدن الأوروبية. الطفل: «ابتي، لماذا هذا البرد القارص؟»، الأب: «لأن روسيا قد غزت أوكرانيا».

يتساوى مستوى التعثر لكل من موسكو وواشنطن في سوء توظيف عنصر الطاقة رغم حيويته الاستراتيجية في الأزمة الأوكرانية، فالشتاء الأوروبي لم يكن بمستوى شتاء حصار ستالينغراد، وواشنطن فشلت في حشد التأييد الدولي المطلوب في محاكاة لدبلوماسيتها إبان تحرير الكويت. كذلك أخطأت الأطراف الرئيسية (موسكو وواشنطن تحديداً) في تقييم طبيعة الأزمة أولاً، أما ثانياً، فقدرة طرفي الأزمة عسكرياً (روسيا وأوكرانيا). فقد أثبتت التطورات العسكرية تكافؤ القدرات القتالية، فكلاهما يعتمدان منظومات قتال روسية، الفرق يكمن في التكتيك الاحتوائي وقدرته على مواجهة التفوق العددي.

روسيا تدرك واقع موقفها السياسي عسكريا نتيجة المشهد العسكري الميداني، لذلك عمدت إلى تغطية عملية إعادة التعبئة عبر استهداف المدن الأوكرانية وعلى رأسها كييف، بل وتدفع الآن بإعادة التلويح بسلامة المجمع النووي في زاباروجيا (الخيار النووي المبطن). أما كييف، فباتت تهدد باستهداف العاصمة الروسية موسكو، إذا ما واصلت الأخيرة عمليات استهداف المدن الأوكرانية.

ويبدو أن موسكو تأخذ ذلك التهديد على محمل الجد، فقد أكد أكثر من مصدر إعلامي قيام وزارة الدفاع الروسية بنشر منظومة بانتسير للدفاع الجوي على سطح مقرها في موسكو. لجوء كييف للتهديد باستهداف العاصمة موسكو سيهدف لتحقيق ثلاثة عناصر وأولها سياسي ومعنوي بإسقاط حصانة العاصمة، أما عسكرياً، فإن ذلك سيضع الرئيس بوتين أمام مسؤولية تبرير ذلك للرأي العام الروسي واحتواء مدى تأثير ذلك على الحالة المعنوية ضمن القيادات العليا للمؤسسة العسكرية الروسية. يبقى مستوى ردود الفعل في حال فشلت قوات فاغنر الروسية في تحقيق اختراقات ميدانية عسكريا تتيح للرئيس بوتين القبول بالجلوس لطاولة مفاوضات قد تفضي لوقف إطلاق النار.

وفي حال عدم تحقيق ذلك، فإن تطور حرب المدن سيُعمق من حال الأزمة، وقد يعيد للمشهد تلويح موسكو بتوظيف الخيار النووي، ومجمع زاباروجيا النووي سيمثل ورقة الضغط الأولى وربما الخيار السياسي الأمثل.

* كاتب بحريني