في اقتصاد عالمي تتحدد علاقاته بالمصالح دون غيرها، لا يمكن تصور حدوث تراجع في مؤشرات التجارة بين الاقتصادين الصيني والأميركي، وذلك رغم ما بينهما من شقاق ونزاع مستمرين. والسبب في ذلك واضح وبسيط، فمن ناحية، تمتلك الشركات الأميركية أدوات كثيرة لفرض مصالحها على مراكز صناعة القرار الأميركية، وهو ما يجعلها تقاوم أي محاولات لفك ارتباطها بالسوق الصينية الأضخم عالمياً.

ومن ناحية ثانية، فإن النفاذ للسوق الأميركية هو من الأهمية الاستراتيجية بحيث لا يمكن المناورة بخسارته من جانب الشركات الصينية المدعومة حكومياً. ولقد أتت الإحصاءات التجارية المنشورة حديثاً لتؤكد من جديد هذه الحقيقة. فبينما ساد في العام المنقضي 2022 جدل واسع النطاق حول التصعيد الصيني - الأميركي، فإن تجارتهما البينية وصلت لمستويات قياسية في السنة نفسها.

ووفقاً للإحصاءات الصينية، وصلت جملة الصادرات والواردات مع الولايات المتحدة نحو 760 مليار دولار. ولكي تتضح ضخامة هذا الرقم، فيكفي هنا النظر لأهميته النسبية في هذين الاقتصادين منسوباً لتجارتهما الخارجية، فنحو خُمس الواردات الأميركية من العالم تأتي من الصين، في حين تستقبل السوق الصينية نحو عُشر الصادرات الأميركية للعالم.

وإزاء هذه الروابط التجارية المتينة، فإن الحديث عن أي تصعيد بين الصين والولايات المتحدة يجب وضعه في سياقه الدولي السليم، ويتعين أن يقع في سمع القارئ بعيداً عن التأثير الآني في اتجاهات التجارة الدولية وخططها الطويلة الأجل. ولو اتضح الآن أن التجارة الدولية يمكنها مقاومة الضغوط وتجاوز القيود، فمن الواضح كذلك أن تحركات رؤوس الأموال في الأسواق الدولية لا تتمتع بهذا الصفة.

والمثال البارز على ذلك يأتي أيضاً من السوق الصينية. فعلى أثر التوترات التي شهدتها السوق الصينية من سياسة «صفر كوفيد»، ومن تحدياته الجيوسياسية على امتداد العام الماضي، سجلت الاستثمارات الأجنبية المتدفقة للصين تراجعاً قياسياً بنسبة 33% و29% في شهري نوفمبر وديسمبر من العام نفسه.

والنتيجة التي يمكن استخلاصها من ذلك أن حساسية الاستثمارات الأجنبية للتقلبات الاقتصادية والسياسية أعلى بكثير مقارنة بحساسية التجارة. وبدلالة أخرى، فإن الاعتماد على خطط التجارة الخارجية يكون أكثر استقراراً وموثوقية في تجاوز الأزمات الدولية مقارنة بخطط الاستثمار.

وعلى أية حال، وبالتعمق في المسببات الحقيقية للتنافس الصيني-الأميركي بعيداً عن التطورات الكمية في التجارة والاستثمار، سنجد خلافاً جوهرياً بين أهداف كل منهما من استمرار هذا التنافس. ففي الوقت الذي تكافح فيه الولايات المتحدة للحفاظ على الزعامة في الاقتصاد العالمي عبر تملكها ناصية التكنولوجيا، فإن الاستقلال التكنولوجي يظل هو الهدف المرحلي للصين في العقد القادم على الأقل.

لكن اختلاف أهداف قطبي الاقتصاد العالمي لن يصل إلى مرحلة الصدام مادام اقتصادهما بهذا القدر من التشابك، ومادامت تجارتهما البينية على هذا النحو من النمو والازدهار، فمن تجمعهما التجارة صعب أن تفرقهما السياسة أو التكنولوجيا.

مركز تريندز للبحوث والاستشارات