هناك قناعة على نطاق واسع في الأوساط العلمية وقطاع الأعمال تشير إلى أن الرقائق الإلكترونية أو أشباه الموصلات ستحدد طبيعة التطور في القرن الحالي، وهو ما يبدو صحيحاً إلى حد بعيد، ففي الوقت الحاضر يدور صراع مرير بين أكبر اقتصادين للسيطرة على هذه الصناعة، وما الصراع الدائر حول تايوان إلا لكونها أكبر منتج للرقائق الإلكترونية من خلال شركتها العملاقة «تايون لصناعة أشباه الموصلات المحدودة» (TSMC)، والتي تنتج لوحدها أكثر من نصف أنتاج أكبر ثلاث شركات أخرى تعمل في المجال نفسه، بما فيها «انتل» الأميركية و«سامسونج» الكورية.

والحال أن أهمية الرقائق تتنامي بصورة سريعة، حيث يعتمد عليها تشغيل كافة مرافق الحياة، بما فيها الاقتصادية، وأن أي نقص فيها سيتسبب في تراجع الإنتاج وغلاء الأسعار، مثلما حدث مؤخراً في قطاع صناعة السيارات، الذي عانى من نقص الشرائح الناجم عن الارتفاع المفاجئ في الطلب عليها بعد أن تجاوز العالَمُ تداعيات جائحة كورونا. كما أن هناك توسعاً في استخدام هذه الرقائق يشمل المرافِقَ الطبيةَ والعسكريةَ وصناعات الفضاء وغيرها من القطاعات المهمة، مما يعني أن التطور البشري برمته سيتوقَّف على امتلاك أشباه الموصلات وتقنيات تصنيعها.

وقبل أن نتطرق إلى أهم العناصر اللازمة لإقامة هذه الصناعات المستقبلية في دول مجلس التعاون الخليجي، لا بد من الإشارة إلى أن دول المجلس خطت في العقود الأربعة الماضية خطوات مهمة نحو إقامة صناعات حيوية، مثل البتروكيماويات والألمنيوم والحديد والبناء والتشييد.. إلا أن ما ندعو إليه بخصوص صناعة الرقائق يختلف تماماً عما سبقه من صناعات. فالبتروكيماويات اعتمدت على مصادر الطاقة المتوفرة في دول المجلس، وكذلك صناعة الصلب والألمنيوم، حيث تكون الطاقة 40% من المدخلات، وبالتالي فإنها تعتبر صناعةً كثيفةَ استخدام الطاقة، أما صناعات البناء والتشييد فاعتمدت على كثافة نسبية لليد العاملة وعلى توفر المواد الخام الأولية محلياً.أما بخصوص صناعة الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات، فإنها تعتبر صناعات كثيفة رأس المال، وهو ما يعيق تنميتَها في الكثير من الدول، ففي العام الماضي وحده خصصت الشركةُ التايوانيةُ نفقات استثمارية بمبلغ 17 مليار دولار مقابل 28 مليار دولار عام 2021، في حين خصصت شركة سامسونغ مبلغ 116 مليار دولار لاستثمارها في صناعة أشباه الموصلات للسنوات العشر القادمة، وذلك إلى جانب الخبرات والمؤهلات العلمية العالية التي تتطلبها تنميةُ هذه الصناعات ذات التقنيات المتطورة. ولنأت الآن للسؤال الأهم: لماذا دول مجلس التعاون الخليجي تعتبر من الدول القليلة الأكثر تأهيلا لإقامة وتطوير صناعة الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات؟ أولا وكما ذكرنا آنفا، فإن هذه الصناعة تتطلب استثمارات بعشرات المليارات من الدولارات، ودول المجلس تملك هذه القدرات الاستثمارية الكبيرة التي لا تتوفر لمناطق أخرى، وثانياً، تمتلك دول التعاون أهم المواد الأولية اللازمة لهذه الصناعة، كالسيلكون المستخرج من الرمال والبلاستك والمواد النفطية التي حققت هذه الدولُ تقدماً ملحوظاً في إنتاجها، إضافة إلى النحاس المتوفر بوفرة في كل من السعودية وعُمان والألمنيوم الذي يُنتَج حالياً في كافة الدول الخليجية. وثالثاً، تمكنت بعض دول المجلس من تطوير بنًى تحتيةً يمكن اعتبارُها أرضيةً جيدة لتنمية صناعة الرقائق وأشباه الموصلات، كمدينة مصدر وواحة السيلكون في الإمارات ومدينة نيوم في السعودية. وتبقى هناك مسألة في غاية الأهمية تتعلق بتوفُّر المعرفة والمهارات والتقنيات أو ما يسمى اختصاراً «Know how»، وهي مسألة حاسمة في تطوير هذا النوع من الصناعات. إلا أن تجارب دول المجلس السابقة أثبتت قدرتَها على استقطاب المعارف والمهارات الخاصة ببعض الصناعات، كالبتروكيماويات، وتوطينها أيضاً، مما يعني أنه يمكن حل هذه الإشكالية بالاستفادة من التجربة السابقة عبر الدخول في شراكات مع مالكي «Know » والذين هم على استعداد لذلك لقناعتهم بقدرة دول الخليج العربي على توفير الاستثمارات اللازمة، فضلا عن تمتعها بالاستقرار والنمو والمرونة في علاقاتها الدولية، مما سيمنح دولَ المجلس وضعاً مميزاً ومتقدماً في صناعة القرن الحادي والعشرين.

*خبير ومستشار اقتصادي