لم يكن النّاس في حاجة إلى من يذكرهم أنهم من أب واحد وأم واحدة، وأنّهم في الأصل من رحم واحدة، أخوة حقيقية لا مجازية، فهذه الحقيقة من المفروض أن تكون من بديهيات العيش الإنسي المشترك، لكن الغفلة ضربٌ من الغشاوة التي لم تفارق الجنس البشري عبر تاريخه الطويل العريض فأذهلته عن كثير من البديهيات الواضحة الجلية، ومنها بديهية الأخوة الإنسية.
عرفت التنظيمات البشرية تراتبات هرمية فاحشة، فكان بعضهم في أعلاها، رجال دين وملوك، وكان بعضهم أسفلها، عمالا وحرفيين، تجلّت هذه الفوارق في الشّرق كما في الغرب، لم يسلم من آفة التراتبية شعب أبدا. فكانت النتيجة أن عُبد الملوك، فقد عُرف عن الإيرانيين القدامى أنهم كانوا يؤلهون ملوكهم ويعتبرونهم معصومين مما يقع فيه البشر من أخطاء، وقُدّس رجال الدين حيث وجدنا المجمع الكنسي الأول في سنة 1870 يقر عصمة البابا، وديس على كرامات الطبقات الدنيا باعتبارها آلة لخدمة الطبقات العليا. وحتى بعض الفلاسفة الكبار، ممن يُظنُّ بهم الاستبصار الكامل، لم يسلموا من ضعة التراتبية مثل أرسطو وأفلاطون. ولم تُعلِن في الناس بصوت جوهري، أن الناس كلهم إخوة وأن لا فرق بينهم في العنصر والجنس، إلا الأديان، فكانت المسيحية أولا، ثم الإسلام ثانيا. كانت صيحة الأديان قوية، وجسّد الإسلام فكرة المساواة الإنسية مثالا يمشي على الأرض، وكان شخصُ بلال التّجسيدَ العملي لهذه الفكرة التي لم تظل في عالم مثالي بل أصبحت واقعا محسوسا. ودعّم هذه الفكرة، بفكرة الأخوة الإنسية الحقيقية في المدينة، بشعار المواخاة الشهير الذي ضرب فيه الصحابة أروع المثل في الضيافة والإيثار وحسن الجوار. وهكذا نجد كما يقول كلود ليفي ستروس «أن فكرة الإنسانية، التي تشمل دون تمييز في العرق أو الحضارة، كل أشكال النوع البشري، لم تظهر سوى متأخرة ولن تعرف إلا انتشارا محدودا». 

والناظر في التاريخ البشري يلاحظ أنه بعد ظهور هذه الأديان التوحيدية لم ينقطع أثر التمييز، بل اشتدت شكيمة العبودية في كثير من الأمم، وتناسلت التراتبية في كثير من أفكارها، حتى رأينا في العصر الحديث من يدعو إلى أفضلية «الجنس الأبيض»، كما فعل رينان في القرن التاسع عشر، وهو يبخس قيمة ما أسماه «الجنس السامي». لتحتفل ب«الجنس الآري» بعد ذلك إيديولوجياتٌ تدميريةٌ عرفها القرن العشرون. مما يؤكد أن فكرة الإنسانية ظلت غائبة بالنسبة لقطاعات واسعة من الجنس البشري وطوال عشرات الآلاف من السنين، ورغم أننا اليوم نشهد ضربا من انتصار لفكرة الإنسانية، فإن ليفي ستروس يرى أهمية تجاوز «الطبيعة المجردة» لفكرة الإنسانية والالتفات إلى طبيعتها الواقعية، ف«الإنسان لا يحقق طبيعته في إنسانية مجردة، ولكن في ثقافات تقليدية حيث التّبدلات الأكثر ثورية لا تحول دون استمرار أعراف بكاملها، وهي تعبر عن نفسها عبر وضعية محددة بدقة في الزمان والمكان». أن تتلاقى فكرة الإنسانية مع الاعتراف بالتنوع الثقافي والمحلّيات التّقليدية، ذلك هو الزواج الناجح القادر على جعل الأخوة الإنسانية أخوة على مستوى الواقع المحسوس وليس أخوة هلامية. فكيف جلّت وثيقة الأخوة الإنسانية هذا الطابع المركب للأخوة الإنسية؟ ذلك موضوع المقال المقبل بحول الله.
*مدير مركز الدراسات الفلسفية- جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية