الفساد وباء قاتلٌ، وهو يَنخر في عظم الدول من داخلها، ما يجعله أشرس أعداء الشعوب حين يتمكن من الحكومات، وعبر التاريخ والجغرافيا تظل الحروب العسكرية واحدة من أبرز اللحظات التي يستشري فيها الفساد وينشر أجنحته السوداء. قبل شهر كتب كاتب هذه السطور في هذه المساحة أن «الفساد في الحروب هو جزء منها على أية حالٍ، وهو يتفاعل مع حجم الحروب نسبةً وتناسباً، والحرب الروسية الأوكرانية ضخمة بكل المقاييس، وبالتالي فالفساد فيها ضخمٌ وكبيرٌ، وهو وإن لم يظهر للسطح في الوقت الحالي بسبب احتدام الحرب وشدتها، إلا أنه سيظهر يوماً ما وستظهر الأرقام والأسماء المشاركة فيه والمنتفعة منه»، وهو ما لم يتأخر كثيراً منذ نشر المقال، فبدأ الحديث عنه يظهر للعلن.

الملياردير الأميركي ومؤسس شركة «مايكروسوفت»، بيل غيتس، أحد أثرى الأثرياء المعروفين حول العالم، وهو حوّل ثروته لمؤسسته الخيرية التي يديرها، وفي أحاديثه كثيرٌ من الحكمة، ويتذكر المتابع حديثه عن خطورة الفيروسات التي قد تجتاح العالم في 2015 وأنها تهديد خطير للبشرية، وفي غضون خمس سنواتٍ كان «فيروس كورونا» ملء السمع والبصر ويهدد العالم فعلياً وبشكل غير مسبوق. بما لديه من خبرةٍ وبمعرفته التي لا يجادل فيها أحدٌ بالأموال والأرقام، فقد تناقلت وسائل الإعلام في الأيام الماضية حديثاً مهماً لبيل غيتس، أشار خلاله إلى معضلة الفساد في أوكرانيا، وقال:«هذا أمر محزن للغاية بالنسبة للشعب هناك»، وأهمية كلام غيتس تنبع من خبرته ومصداقيته في هذا المجال، ومن قبل، فإنه بالتحليل كانت الحرب الروسية الأوكرانية ومع تدفق المساعدات الغربية المليارية على أوكرانيا مظنة للفسا.

وغيتس يتحدث صراحة عن الفساد في أوكرانيا، والحكومات الغربية تصمت صمتاً مطبقاً عن هذا الفساد لأنها تدير معركة كسر عظمٍ مع روسيا وحرباّ دولية ضدها، وهي لا تريد أي إثارة للشكوك تقلل من هذه المعركة والحرب، ولكنها ستفيق يوماً وستتحرك مؤسساتها وستتبعها وسائل إعلامها، وسينكشف المستور ويصبح المسكوت عنه اليوم حديث العالم غداً، وإن غداً لناظره قريب.

المساعدات الغربية لأوكرانيا تجاوزت المئة والخمسين مليار دولار، وهو رقم ضخم وهائل بكل المقاييس، رقم يسيل له لعاب الفاسدين حول العالم، إذ يعادل أضعاف ميزانيات دول مهمة كأوكرانيا وليست فقيرة ككثير من الدول حول العالم، وفي ظل المبادئ الكبرى والشعارات التي تتحدث عن «الحرية» و«الديمقراطية» وفي ظل الصراع الدولي الخطير وغير المسبوق في حجمه واتساعه منذ نهاية الحرب العالمية الباردة، وفي ظل غياب الرقابة الدقيقة والفاعلة تصبح كل هذه المساعدات مرتعاً خصباً ومغرياً لكل من يمثل نموذج الفاسدين في الحروب.

بغض النظر عن الموقف السياسي الذي تتبناه أي دولة تجاه الحرب الروسية الأوكرانية، فإن السكوت عن الفساد المستشري بصورة كبيرة وبأرقام فلكية يهدد الدول والنظام الدولي برمته، ورفض الفساد مبدأ ورفض التكسب من الحروب مثله، وما يجري في أوكرانيا مجرد نموذج في هذا السياق، بمعنى أن الموقف من الفساد في أوكرانيا لا علاقة له بالموقف السياسي من الحرب الدائرة هناك والتجاذبات الدولية التي تحيط بها، وهو مفيدٌ لقراءة المشاهد الساخنة بوعي ورصد تطوراتها وما يجري فيها وحولها بهدوء وتبصر.

أخيراً، فقد بدأت بعض الحكومات الغربية تبدي شيئاً من التذمر تجاه الطلبات الملحة للأموال من أوكرانيا، وبدأ المحللون يتساءلون عن السبب وراء رفض  بعض النخب السياسية الأوكرانية للتهدئة بأي وجه من الوجوه، وهي أسئلة ستلتقي بإجاباتها مستقبلاً.

*كاتب سعودي