لم يكن متصوراً قبل أشهرٍ قليلة من الآن أن يكون الجدل الأوروبي حول إرسال دبابات ثقيلة إلى أوكرانيا أحد أهم عناوين الفصل الراهن في الحرب التي ستدخل عامها الثاني بعد ثلاثة أسابيع تقريباً. فقد دفعت مشاهد الدبابات الروسية والأوكرانية المُدمَّرة في ميادين هذه الحرب، خلال صيف وخريف عام 2022، بعضَ الخبراء والمراقبين إلى التساؤل عما إذا كان عصر الأسلحة المُدَّرعة يقترب من نهايته بعد أن بقيت ركيزةً أساسية للجيوش في مختلف الحروب منذ قرن ونيف؟
فقد أُدخلت الدبابات ميادين المعارك للمرة الأولى في منتصف الحرب العالمية الأولى، وتحديداً في سبتمبر 1916، بدءاً بمعركتي ذا سوم وكامبراي. ورغم أن الدبابات التي استُخدمت في ذلك الوقت كانت بطيئة وضعيفةً في مواجهة نيران المدفعية الثقيلة، فقد أدى استخدامها إلى تحريك جمودٍ كان قد خَيَّم على معارك الخنادق في بعض الجبهات. ولهذا اشتد الاهتمام بتطويرها وتحديثها، واحتدم السباق في هذا المجال في الفترة التالية للحرب الأولى. وعندما نشبت الحرب الثانية عام 1939 كانت الدبابات، والمُدرَّعات عموماً، هي السلاح الرئيسي فيها. فقد وقعت خلالها معاركُ دبابات رهيبة كان بعضُها حاسماً في تحديد نتيجة الحرب، وانتصار الحلفاء في النهاية.
ويُنظر إلى معركة بروخوروفكا كورسك بين القوات الألمانية والسوفييتية في يونيو ويوليو عام 1943 بوصفها أكبرَ معركة دبابات في تاريخ الحروب. كما أنها تُعد في الوقت نفسه بدايةَ النهاية للقوة العسكرية الكبرى التي تمتع بها الجيش الألماني على الجبهة الشرقية في الحرب الثانية. ومنذ ذلك الوقت لم تَخلُ حربٌ من دور محوري للدبابات والأسلحة المُدرَّعة. ولم تُفلح محاولاتٌ لتقليل هذا الدور، كان أهمّها في الولايات المتحدة في مطلع القرن الحالي حين تصور وزير دفاعها دونالد رامسفيلد أن الحروب الحديثة تتطلب تحديث الجيش الأميركي تكنولوجياً وتنظيمياً، والاعتماد على قوات أقلَّ عدداً وأكثر قدرةً على الحركة والمناورة، وإعطاء اهتمام أكبر للقوات المحمولة جواً ومشاة البحرية.. على حساب القوات البرية التقليدية وأسلحتها المُدرّعة التي تنتمي إلى عصر الحربين العالميتين.
لكن تَحفُّظَ معظمِ القادةِ العسكريين على خطة رامسفيلد تلك أدى إلى إحباطها، والمحافظة تالياً على دور الدبابات المحوري المستمر حتى اليوم. وما الجدل الذي أُثير حول تزويد حكومة أوكرانيا بدبابات ليوبارد الألمانية وإبرامز الأميركية، وقبول بون وواشنطن في النهاية إرسالها إلى كييف، إلا مؤشر جديد إلى أن هذا السلاح مازال محتفظاً بدوره. فلا يكفي تَعَرُّضُ أعدادٍ ضخمة من الدبابات للتدمير في حرب أوكرانيا دليلاً على أن الأسلحة المُدرَّعة فقدت دورَها أو جزءاً منه. فعندما تفشل الدباباتُ في معركةٍ أو أخرى، يعود ذلك غالباً إلى سوء استخدامها على نحو يُسَّهل اصطيادَها، أو إلى ضعف إسنادها بقوات مشاة كافية ووحدات وتجهيزات هندسية ملائمة.
كما أن التطور المستمر في تصميم الدبابات وتقنياتها وقدراتها يحافظ على دورها، وربما يكون ابتكارُ دباباتٍ مُسيَّرة هو الفصل المقبِل في هذا التطور.

*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية