يصور وادي السيليكون أي تقنية على أنها تعمل حتماً على تعزيز التقدم البشري. لكن مسيرة الثقة بالتكنولوجيات الجديدة في المجتمع تتطلب تقييماً نقدياً. وخسائر التقدم تتراكم، مما يدعو إلى التساؤل عن سبب نشرنا لهذه التقنيات في المقام الأول. والعواقب الاجتماعية لوسائل التواصل الاجتماعي مخيفة ولا تقتصر قدرتها على تشويه الحوار الوطني، ونشر المعلومات المضللة بسرعة كبيرة بحيث يتعذر على الحقيقة اللحاق بها. فقد اشتكى عدد من المراقبين أيضاً من أنها تستبدل العلاقات عبر الإنترنت بالعلاقات الاجتماعية الحقيقية، وتبني حقائق بديلة قابلة للاستغلال في مساعي تحقيق الربح. 
وقام مديرو الشركات بنشر الربوتات لأتمتة العمليات واتخاذ قرارات متزايدة التعقيد كي تمثّل بديلاً أفضل. لكن هذه السمعة تعتمد على افتراضات لم يتم فحصها. ومن هذه الافتراضات أن الأتمتة تعمل بالضرورة على تحسين ربحية الشركة، وأن ثمار هذا التقدم يتم تقاسمها على نطاق واسع عبر المجتمع. وهذا التصور يقول إن الشركات التي تصبح أكثر إنتاجية ستوسع الإنتاج وتوظف مزيداً من العمال. وستعمل الأتمتة أيضاً على إنشاء مهام جديدة داخل الشركات يقوم بها البشر. وزيادة الدخل بما يتماشى مع الإنتاجية سيؤدي إلى توليد الطلب على المنتجات والخدمات الجديدة، مما يؤدي بدوره إلى زيادة فرص العمل. وستؤدي المنافسة الإضافية على العمالة إلى ارتفاع الأجور.
صحيح أن هذه المقترحات منطقية، لكنها للوهلة الأولى لا تتناسب مع ما نراه في العالم الحقيقي، حيث يحدث نمو التوظيف غالباً في بؤر العمالة الرخيصة مثل ماكدونالدز ومتاجر سفن إليفن. وأي شخص يعتقد أن المكاسب من الأتمتة يتم تقاسمها على نطاق واسع هو غافل. فقد توصل مسار جديد للبحث الاقتصادي في عواقب التغيير التكنولوجي إلى أن انحياز التكنولوجيا نحو الأتمتة قد يكون مسؤولاً عن معظم الارتفاع في عدم المساواة في الأجور، مما يؤدي إلى انقسام في سوق العمل بين العمال الأقل تعليماً الذين يستَبعَدون من مهامهم ويتعرضون لخفض أجورهم، وبين خريجي الجامعات وخاصة خريجي الدراسات العليا الذين يتعرضون للاستبعاد بنسبة أقل.
وتتطلب التكنولوجيا مهام جديدة، وتفتح الباب أمام وظائف جديدة، لكنها أيضاً منحازة تجاه المتعلمين تعليماً عالياً ولا تقدم سوى القليل للعمال الذين لديهم مهارات أساسية فقط، والذين تولّت الآلاتُ مهامَّهم. ووجدت الأبحاث التي أجراها اقتصاديون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة نورث وسترن وجامعة أوتريخت أن الاقتصاد خلق الكثيرَ من وظائف الإنتاج ذات الأجور المتوسطة والوظائف الكتابية من عام 1940 إلى عام 1980، لكن الكثير منها قد تلاشى الآن. والوظائف التي ظهرت منذئذ، كانت إما مناصب مهنية عالية الأجر أو وظائف خدمية عابرة منخفضة الأجر. وما على المرء إلا أن ينتظر حتى يقطع الذكاء الاصطناعي خطوته التالية. فسيحصل العمال الذين شرَّدهم الإصدار التالي من ربوت دردشة جي.بي.تي على لعب دورهم المعتاد في سردية التقدم وهو الوقوع ضحية الدهس في الطريق. 

ولا تقتصر مشكلة التقدم على الطريقة التي يتم بها تقاسم ثماره، فالمكاسب ذاتها أصبحت موضع تساؤل. وقد تتذكر اعتراف إيلون ماسك بأن «البشر يستهان بهم»، وهو اعتراف نادر صدر بالخطأ بعد أن أدت محاولاته لأتمتة خطوط تجميع تسلا إلى تأخر وأعطال. والخطأ شائع. وغالباً ما يصعب العثور على مساهمات التكنولوجيا في الإنتاجية. فقد لاحظ دارون أجيم أوغلو، من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أن الكثير من الأتمتة لا يقدم سوى القليل من الإضافة إلى الحد الأدنى. ولك أن تتخيل في خدمة عملاء آلية أو شاشات تعمل باللمس في ماكدونالدز. ويقوم المديرون بالأتمتة على أي حال لسببين، لأنها تمثل «تقدما» يطمح الجميع للاندراج فيه، ولأن الكلفة التي يمثلها الاحتفاظ بالعمال الذين تم استبدالهم بسبب التقنيات الجديدة لم تعد ضرورية بالنسبة للشركات. ولذا حتى لو كانت العائدات صغيرة للغاية، فإنها تستحق ذلك. 
ويحدث الابتكار، ببعض المقاييس، بوتيرة مذهلة. ففي عام 2020، أصدر مكتب براءات الاختراع في الولايات المتحدة أكثر من 350 ألف براءة اختراع، أي نحو ستة أضعاف العدد المسجل في عام 1980، في فجر الثورة الرقمية. لكن إنتاجية العوامل الإجمالية في هذه الفترة نمت تقريبا بمعدل 0.7 بالمئة سنوياً، أي أقل من ثلث معدل النمو في الفترة بين الأربعينيات والسبعينيات. بينما يميل المتفائلون بالتكنولوجيا في مدينتي كوبرتينو وماونتين فيو في كاليفورنيا إلى استنكار الأرقام الهزيلة ووصفها بالخطأ في القياس. ويحتجون بأن أدوات تحليل البيانات تغفل عن كل الأشياء الجيدة. ويخلص كثير من العلماء الجادين إلى فكرة أن كل تكنولوجيا المعلومات الرائعة لن تؤدي بالضرورة إلى ثورة في الإنتاجية. 

والابتكار بلا شك شيء رائع، فبسببه ننجو من الأمراض التي كانت تقتلنا بانتظام، ويمكننا الوصول إلى كميات لا يمكن تصورها من المعلومات ومعالجتها. وبدون التقنيات الجديدة، لن نتمكن من التصدي للتحدي المتمثل في التخلص من الكربون واحتواء تغير المناخ. لكن كما أشار أسيم أوغلو وزميله في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا سيمون جونسون، في كتابهما «القوة والتقدم» الذي من المقرر إصداره في مايو المقبل، تؤكد الأدلة المعاصرة والقصة الطويلة للتطور التكنولوجي للبشرية أنه «لا يوجد شيء تلقائي في أن التقنيات الجديدة ستجلب الرخاء على نطاق واسع. وتحقيق هدف مثل هذا ليس إلا خياراً اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً فحسب». ويجادلان بأنه يجب على وادي السيليكون ألا يشعر بأنه مؤهل لاتخذا هذا القرار. ومع مطاردة صناعة رأس المال الاستثماري لفرص في الذكاء الاصطناعي لتولي مجموعة متزايدة من المهام والقرارات، مثل ممارسة القانون وتحليل الأسواق، يخشى أجيم أوغلو وجونسون أن يقود التقدم التكنولوجي المجتمع إلى طريق مظلم. فماذا لو، بدلا من زيادة الإنتاجية، أعاد الذكاء الاصطناعي ببساطة توزيعَ القوة والرخاء بعيداً عن الأشخاص العاديين لصالح الذين يتحكمون في البيانات؟ ماذا لو أدى إلى إفقار المليارات في العالم النامي حيث لا تستطيع عمالته الرخيصة منافسةَ الآلات الأرخص ثمناً؟ ماذا لو عزز التحيزات القائمة على لون البشرة مثلا؟ ماذا لو دمر المؤسسات الديمقراطية؟ ثم كتبَا يقولان: «الأدلة تتزايد على أن كل هذه المخاوف مسوغة». ويمكننا تجنب الروبوت القاتل. ولا يتعين أن تقودنا التكنولوجيا إلى كابوس يهيمن فيه قلة من أصحاب المال. لقد حفلت فترة قرن ونصف قرن الماضية بانفراجات تكنولوجية حسَّنت أحوال العمال ونهضت بالجميع. ولتأخذ مثال الماوس وواجهات الكمبيوتر التي يسهل التعامل معها، أو برنامج إكسل، أو البريد الإلكتروني. فقد وسَّعت هذه الاختراعات القدرات البشرية بدلاً من القضاء عليها. ويمكن القول إن أهم ثورة تكنولوجية في تاريخنا تتمثل في تحول الاقتصاد الزراعي إلى قوة صناعية جعلت الطبقة العاملة في وضع أفضل بكثير. 
ولدينا الآن أدوات تكنولوجية مذهلة تحت تصرفنا، والسؤال يتعلق مدى قدرتنا على نشرها بطريقة تكمل البشرَ ولا تنبذهم باعتبارهم مخلفات للمسيرة نحو التقدم. قد لا يكون واضحاً كيفية نشر التكنولوجيا على مسار أكثر تركيزاً على الإنسان ببناء الأدوات التي تعظم ما يمكن للبشرية القيام به. لكن هناك شيئاً واحداً واضح. وهو أن الأمر سيتطلب انتزاع القرار النهائي بشأن اتجاه الابتكار من القلة التقنية المهيمنة التي تستفيد من التشرد البشري والاغتراب الاجتماعي. وبعد ذلك، قد نبني منصة لوسائل التواصل الاجتماعي لا تسعى لنشر معلومات مضللة وجذب انتباه المشاهدين وزيادة عائدات الإعلانات. وقد لا نستبدل عمال خدمة العملاء في الشركات الأميركية بآلات لا تقدم شيئاً. 

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسينج آند سينديكيت»