لعل الصورة العامة للصحافة الورقية في وقتنا الحالي أشبه بمريض في غرفة الإنعاش يلفظ أنفاسَه الأخيرة، أما الورقيون من الصحفيين فنرى كثيراً منهم قد بدأوا يطرقون الأبواب احتياجاً وفاقةً، بعد أن تراجعت قيمة الكلمة المكتوبة على صفحات النمط الجديد من الإعلام، وأصبحت أقل قيمة من الكلمات المتقاطعة التي تستهلك أوقات الكثيرين بلا فائدة تذكر، وبعد أن سحبت التقنيات التحريرية الحديثة التي حملتها الشبكة العنكبوتية البساطَ من تحت الصحافة الورقية التي كانت عنوانَ الإعلام الأبرز ووسيلتَه الأساسية في نقل الخبر والمعلومة والتحليل الصحفي الرزين، وفي مقابلة كبار القادة، كما كانت المصدرَ الأكثر مصداقيةً للمعلومة والفكرة والمعرفة. لكن الصحافة الورقية أضحت أشبه بـ«بروشورات» ملونة بالعناوين والصور الملونة. ولم تعد الصحف الورقية بصيغتها التقليدية قادرةً على المنافسة ولا حتى الاستمرار، أحرى عن اللحاق بركب التقنيات الرقمية التي تجاوزت كل مفاصل الإعلام التقليدي.
ونتيجة لهذا التحول الدراماتيكي، أضحت مهنةُ الصحافة الورقية مهنةً مهددةً بالانقراض. أما الصحفيون الورقيون فضاقت بهم الحياة بما رحبت، وتقطعت بهم سبل العيش، وتمزقت أشرعتهم وتكسرت أقلامهم.. إذ خرج من محيط فضاء الإنترنت الواسع مدَّعون للصحافة الإلكترونية من دون أقلام ولا أفكار مستنيرة ولا آراء راجحة. ورغم أهمية مهنة الصحافة والكلمة ودورهما في تنمية وعي المجتمعات وتطويرها، فإن هذا النمط الجديد من الصحفيين نادراً ما يمتلكون الحس الصحفي، وكثيراً ما افتقروا لفهم دور الصحافة في بناء المجتمعات والدفاع عن الأوطان وتنشئة الأجيال. إن معظمهم لا يمتلكون الخبرات الإعلامية الكافية التي تؤهلهم لاستشعار الأحداث الكبيرة قبل وقوعها. ومن هنا بات التخبط والفوضى وعدم الالتزام سمة أساسية لكثير من منابر الإعلام الجديد، والذي لا يقدم للقارئ رؤيةً واضحةً، خاصة إذا ما علمنا ما للإعلام من أهمية تثقيفية ودور وطني في الحفاظ على البلدان وترشيد وعي الأجيال الصاعدة بغية تأهيلها لمهمة بناء الأوطان وحماية مستقبلها.
وتبدو الصورة أكثر تراجيديةً عندما نرى الكثير من الصحفيين والإعلاميين، لاسيما كبار السن وأصحاب الخبرات الطويلة منهم ممن أمضوا معظم أعمارهم في خدمة صاحبة الجلالة، وهم الآن بلا عمل، يمضون جل أوقاتهم في محاربة الملل والإحباط على أطراف الأرصفة والمقاهي المنسية، يندبون حظهم العاثر ويتأملون ركب مدعي الصحافة يمضي أمامهم كقطار سريع، يسير بلا هدف أو بوصلة تقوده نحو الهدف المنشود!
ومما يترك لدى هؤلاء الورقيين المخضرمين القدامى أثراً نفسياً سيئاً، أن يروا أنفسَهم وقد باتوا مجرد متفرِّجين، وكأنهم أصنام أو تماثيل شمعية في متاحف تاريخ الصحافة الورقية!
هذه ليس دعوة للوقوف في وجه الرقمنة، وإنما هي دعوة للاستفادة من عقول وخبرات تراكمت على مدى عشرات السنين، دفعت أجيالٌ من الصحفيين ثمنَها من أعمارهم وعقولهم، لكنها أُهملت مع الزمن وباتت كمكتبة قديمة تراكم الغبار على ما فيها من كتب قيّمة بدأ الزمن والإهمال ينالان من لونها، فتحولت إلى ما يشبه أوابدَ تاريخية يتساقط أبطالها واحداً تلو الآخر كما تتساقط أوراق الشجر في فصل الخريف! فكم تبدو وطأة الزمن قاسيةً على هذه العقول الثمينة والخبرات النادرة!

*كاتب سعودي