ليس الغرض من هذا القول استشكال وثيقة الأخوة الإنسانية، فالوثيقة بما تحمل من رمزية عظيمة هي وثيقة بعيدة عن الاستشكال، أولاً، لأنها كتبت بقلمين يغترفان من مشكاة النبوة، قلم مسيحي وقلم مسلم، ووُقِّعت، في أبوظبي، تحت عيْنِي رمزين قويين من رموز دولة الإمارات العربية المتحدة، صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان وصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم. ثم هي وثيقة اعتمدتها الأمم المتحدة. ثانياً، لأن هذه الوثيقة تشكل جواباً قوياً على تحديات عصر وصفته الوثيقة بكونه عصراً يمور بالمشاعر الهدامة. ونحن نرى جواب الوثيقة يتخذ مسلكين متكاملين: مسلك حالم مفعم بالأمل، ومسلك واقعي طافح بالاستبصار.

يبرز الجواب الحالم في وثيقة الأخوة الإنسانية في توقّع مستقبل تصبح فيه الأخوة الإنسانية الرّواقَ الآمن لأعضاء المجتمع الإنساني، وهي بهذا تتوجه إلى الجانب المتنوّر في الإنسان لتحريك أجمل ما فيه من نزعات كامنة إلى التعايش وتحقيق الأحلام المشتركة في العدل والحرية والتضامن. تحلم الوثيقة بسيادة ثقافة العيش المشترك والسّلام العالمين، وتحلم بعودة السّيادة للضمير والأخلاق الدينية، وتحلم بعالم يجمع إلى ظاهر العلم باطنه من الإيمان، وتحلم باقتلاع جذور المادية البغيضة والتطرف من البيئة العالمية، وتحلم بسيادة المساواة الاقتصادية بين ساكني الأرض، أمَّا الحُلْمُ الملَكيِ لها فهو أن تصبح الأخوة الإنسانية اللُّحمةَ الجامعةَ.

لكن الوثيقة تستند في رؤيتها إلى جواب واقعي كذلك، جواب ينطلق من مبدأ ويؤسس لمبادئ، مبدأ يسمح بالتفكير في الموضوع، وهو شائع في الأديان ومشهور في الفلسفات أوجب التصديقَ به شهادةُ العلماء وأهل الفضل من السَّاسة، مبدأ يمكن تلخيصه بالعبارة الآتية: إن الأخوة الإنسانية ممكنة وضرورية للسّلام العالمي.

وتجد هذه الوثيقة الخالدة تعبيراتها وصورها وأنماط وجودها، في مبادئ سبع على الأقل، تتفرع عن هذا المبدأ الرئيس، وهي بإجمال: مبدأ الاسم، والاسم عنوان، إذ لكل وجود اسم، والوثيقة حريصة على أن يكون لها اسم فرعه في السماء وأصله في الأرض ثابت. مبدأ فهم الواقع: ويشكل المبدأ الأساس لوثيقة الأخوة الإنسانية حيث تَبْرُزُ الوثيقةُ لتنذر العالمين بعواقب وخيمة لحرب قادمة، والوثيقة وصفٌ وتحليلٌ، ووَصْفَةُ علاج. مبدأ الأسرة وأهمية الحسّ الديني: إذ تنطلق الوثيقة من الخطر الكبير للخلية الأولى للمجتمع، ووجوب صيانتها.

وكذا أهمية تفعيل الدّين في النفوس. ومن المبادئ الواقعية الأخرى: مبدأ المواطنة، ومبدأ التكامل بين الشرق والغرب، ومبدأ كرامة المرأة والطفل والعجزة، ثم مبدأ النّصيحة العالمي لتفعيل المبدأ الأساس، وما يطوف حوله من قيم، إعلامياً وتربوياً وسياسياً. إن رمزية وثيقة الأخوة الإنسانية تُرجعُ الأذهان إلى القارَّة المجهولة التي اكتشفها الدّينُ المسيحي والدّينُ الإسلامي، قارة «الأخوة الإنسية»، فهذان الدّينان، بدعوتهما إلى الأخوّة الإنسانية والعمل على تجسيدها في فضاء ذَهل عنها، مهّدا لهذه الوثيقة البديعة التي توّجتْ بعد قرون، جهوداً إنسانية جبّارة لجعل هذه الأخوة ميثاقاً دولياً.

إن الأمم المتحدة عندما تبنّت وثيقة صاغها قلمُ الْمُسَبِّحين في القرن الحادي والعشرين، أعطت البرهان على قوّة حضور الدين، ليس في الفضاء العمومي فحسب، بل في الفضاء العالمي، معترفة بالدّين قوّة اقتراحية لم يعد من الممكن غضّ الطّرف عنها. فهنيئاً للقيادة الرشيدة لدولة الإمارات بهذا الإنجاز الأخوي الإنساني الذي سيجعل لها، بإذن الله تعالى، لسان صدق في الآخرين.

* مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية.