الدول لا تستطيع حماية أمنها وحدودها وشعبها واستقرارها ومستقبلها، إلا إذا كانت محصنةً من الداخل، أي ما لم تكن جبهتها الداخلية قوية ومتماسكة وصلبة.. كالبنيان المرصوص. يجب أن تكون متأهبة لأي طارئ، وأن تكون قادرة على التفاعل مع كل التطورات والمستجدات، وأن تكون ملتزمةً بثوابت الوطن وأسسه الصلبة وأهدافه المنشودة السامية ومستقبله الآمن، وأن تعمل على ترسيخ مبادئ الانتماء للوطن والولاء لقيادته، لأن وحدة الوطن ركيزة ضرورية لتجاوز التحديات، ولا يمكن أن تكون الوحدة الوطنية محل مساومة، إذ هي من الثوابت الراسخة المتجذرة في الأرض، وهي الشرط الضروري لكينونة مقومات البقاء التي تتأسس عليها الدول، وعلى ضوئها تضع قوانينها وأنظمتها وشرائعها وهويتها.. وعلى هديها أيضاً تنشأ وتتربى أجيال الشباب الذين يكونون أبناء مخلصين أوفياء لخدمة الوطن وبناء أسواره والدفاع عنه وحماية سيادته وشرفه. 
و‏مما يرويه التاريخ والقصص التراثية أن البطل صلاح الدين الأيوبي استدعى قبل إحدى المعارك بأيام صاحبَ الشرطة في دمشق، وهو منصب يعادل وزير الداخلية في عصرنا هذا، وقال له: «يا صاحب الشرطة، أذّن في الناس، لا ينام أحد وبابه مغلق عليه، ولا يغلق تاجر باب متجره عند ذهابه لبيته». استغرب صاحب الشرطة هذا ‏الطلب الغريب العجيب، وحاول أن يحتج أو يستفسر عن الأمر، لكن صلاح الدين قال له بحزم: «نفذ ما أمرتك به».
صاح المؤذنون لتبليغ أمر السلطان للناس (كان عدد سكان دمشق حينها أكثر من 150 ألف نسمة، وهو ما يعادل ملايين بمقياس هذه الأيام)، وفي اليوم التالي، استدعى السلطانُ صاحبَ الشرطة وطلب منه أن يكرر ما فعلَه ليلةَ أمس ‏واستدعاه في اليوم الثالث وطلب منه تكرارَ نفس ما فعله في الليلتين السابقتين، وبعدها استدعاه في اليوم الرابع وسأله: «هل تم إبلاغكم عن أي سرقات حصلت في المدينة؟». أجابه: كلا يا مولاي، لم تحدث أي سرقة. قال صلاح الدين لقائد جيشه الذي كان في مجلسه: ‏«الآن أعلنوا النفير للمعركة، والله لو بُلِّغتُ عن سرقة واحدة لأجّلت المعركة عشر سنين». إنه الاطمئنان للجبهة الداخلية القوية الآمنة المتماسكة التي بناها صلاح الدين وأقامها على الأمن والعدل.
ومن هذا تأتي حماية الأوطان وصونها، لأن الجبهة الداخلية الآمنة أقوى من أي قوة خارجية غازية، تريد أن تفتك بالأوطان وتسرقها وتفرقها وتنهب ثرواتها وتشتت شعبها. ولذلك لما كانت بعض الدول العربية جبهتها الداخلية قوية ومتماسكة ومتجانسة ومتناغمة يحكمها القانون والنظام، حاربت خارجياً ولم يمس أمنها بسوء. أما حين ظهرت الطائفية وانتشرت المذهبية والمحاصصات الولائية، وكثر اللصوص، وأصبح الولاء ليس للأرض والوطن، بل للطائفة والمذهب وصاحب الفتوى.. انهارت الأوطان وتمزقت هويتها وتبددت أموالُها وهدمت جدرانها، وسرقها الغرباءُ بمساعدة أهل الدار، ليتقاسموا خيراتها، والكل يتفرج على أشلاء بلدان كانت فيما مضى من الأوطان القوية بلحمتها ووحدتها وجبهتها الداخلية المتماسكة الآمنة.
لقد تمت سرقة خيرات هذه البلدان المبتلاة بالقلاقل والاضطرابات، وتم تهريب ثرواتها وبيعت على أرصفة شوارع المدن الغربية، والتي أصبحت في الوقت ذاته ملجأً لمن هرب بجلده ولم يستطع سرقة بلده وأهله أو خيانة وطنه.. لأنه لم يتعلم ذلك من جيل الزمن الجميل، زمن الطيبين الوطنيين الذين يعتبرون حب الوطن من الإيمان.

*كاتب سعودي