لا يُقصَد بالبيئة تلك المكوّنات الطبيعية التي توجَد على قطعة محدَّدة من الأرض؛ بل هي ذات مفهوم أوسع. فحين استوطن الإنسان الأرض وبنى القرى والمدن، ومع نمو الوعي تشكَّلت سلوكياته، فأصبحت عنصراً مؤثراً في علاقته بكل المفردات التي كوَّنت البيئة، وترجمت تلك العلاقة إلى آثار مادية في البيئة والمناخ.

ومن هذه الزاوية، نعي أن التفاعل الاجتماعي للإنسان هو واحد من العناصر المؤثرة في البيئة والتغير المناخي الناتج من أخطاء السلوك الإنساني؛ فكل تغير في إحدى المنظومات المكونة للبيئة سينعكس سلباً أو إيجاباً عليها؛ ومن ثَمَّ فإن الاستدامة المجتمعية تمثّل عنصراً مهمّاً في بناء الاستدامة البيئية.

وأحدُ أهم الأمثلة الواضحة لهذا النسق من التأثير الاجتماعي في البيئة هو النمو السكاني المطَّرد في العالم، الذي يؤثر تأثيراً مباشراً في استهلاك الإنسان العناصرَ البيئية لتوفير الموارد -بكل أنواعها- اللازمة لحياة أكثر من ثمانية مليارات شخص هم عدد سكان الأرض؛ ما أحدث انخفاضاً حادّاً في بعض عناصر البيئة؛ فعلى سبيل المثال أفقد استنزاف الإنسان غير المستدام للغابات -بهدف توفير احتياجاته من الأخشاب ومشتقاتها التصنيعية- البيئة ملايين الكيلومترات المربَّعة منها؛ ذلك أن الغابات تغطي 31 في المئة من المساحة الإجمالية لسطح الأرض. وأفاد تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة (الفاو) بأن مساحة الغابات في العالم آخذة في الانحسار؛ إذ خسِر العالم 178 مليون هكتار (ما يوازي 1.780 مليون كيلومتر مربع) من الغابات منذ عام 1990، بكل ما تمثله الغابات من أهمية في الحفاظ على التوازن البيئي والمناخي، ودعم الحياة الخضراء للإنسان.. كل ذلك لتوفير احتياجات الإنسان التي خلقها النسق الاجتماعي الذي يعيشه؛ ومن هنا ندرك قيمة هذا النسق في التأثير بالبيئة والمناخ.

وحين نتحدَّث عن الاستدامة؛ فإن الوعي الجمعي يتجه ببوصلته نحو البيئة من دون إدراك أن الاستدامة هي نسق يمكن ربطه بكل نشاط إنساني؛ وهنا يجب التركيز على الاستدامة المجتمعية، وأهميتها في بناء منظومة سلوكيات تؤثر بشكل مباشر وإيجابي في الاستدامة البيئية، وتحقيق الأهداف التي أدرجتها دولة الإمارات العربية المتحدة في استراتيجيتها البيئية، وبناءً عليها أعلن صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة -حفظه الله- 2023 عاماً للاستدامة، مكلّلاً نهاية هذا العام بمؤتمر المناخ COP28.

ودعماً لعملية الحفاظ على البيئة وحماية المناخ من التغيير السلبي لا بدَّ من خلق وعي جمعي لاستدامة السلوك الإنساني الإيجابي تجاه البيئة، ووَضْع خطط لتغيير السلوكيات السلبية، وتحويلها إلى سلوكيات إيجابية مستدامة بشكل منهجي منتظم؛ لتكون هي عمود الارتكاز لكل النُّظم التي تعمل على تحقيق الاستدامة البيئية، وحماية البيئة والمناخ من التغيُّر السلبي الذي يقود البشرية نحو مستقبل بيئي مقلق.

إن تغيير الوعي الجمعي لا يمكن أن تحققه القوانين ومبادرات التوعية التقليدية فقط، نظراً إلى أن تأثيرها قد ينتهي فور انتهاء إجراءاتها، وخاصة حين تخاطب الوعي الظاهري للمجتمع؛ كما أن أغلب مبادرات التوعية تخاطب الكبار، والقليل منها يُوجَّه إلى الأطفال، والمفروض العكس؛ ولذلك لا بدَّ أن نخرج من إطار المبادرات إلى إطار أكثر استدامة هو التعليم؛ إذ يمكننا وضع خطة استراتيجية لتنشئة أجيال مشبع وعيها بالسلوك البيئي الإيجابي المبني على إيمان ويقين بقيمة الحفاظ على البيئة، اعتماداً على العلم والمعرفة، عن طريق إعداد منهج بيئي مستقل يُدرَّس للأطفال بدءاً من المرحلة الباكرة للتعليم؛ منهج يعتمد على الحقائق العلمية، والمعرفة العميقة للبيئة والمناخ؛ وبذلك نبني سلوكاً ونسقاً اجتماعيّاً مستداماً تجاه قضايا البيئة والمناخ.

د. شما بنت محمد بن خالد آل نهيان *

أستاذ زائر بجامعة الإمارات وأستاذ زائر بكلية التقنية العليا للطالبات بالعين.