بعد الارتفاعات المتكررة والاستقرار عند معدلات مرتفعة، فإن أسواق النفط والطاقة بشكل عام تمر بمنعطف مهم وتناقضات غير محسوبة تسببت بها أساساً الحربُ الروسية الأوكرانية، والتي خلطت الكثيرَ من الأوراق على كافة المستويات، وتحولت إلى مصارعة للي الأذرع، وهو ما يفسر عمليةَ التصعيد الخطير وانعكاساتها على كافة المستويات.
ومع ذلك حافظت أسعار النفط حتى الآن على توازنها بفضل جهود مجموعة دول «أوبك +» رغم محاولات بث الفرقة بين دول المجموعة بين فترة وأخرى، باعتبارها الطريق الوحيد لتخفيض الأسعار، إلا أن الوعي الذي تتحلى به هذه الدول وتمسكها بالمكاسب التي تحققت وتعاملها بروح براغماتية مع تطورات العرض والطلب حالت دون ذلك.
آخر هذه التطورات يرتبط بإعلان روسيا تخفيض إنتاجها من النفط بمقدار نصف مليون برميل يومياً، إذ يأتي ذلك في ظل مؤشرات إيجابية حول ارتفاع الطلب من الصين بعد إلغائها للإجراءات الخاصة بجائحة «كوفيد-19»، مما قد يؤدي إلى نقص في الإمدادات، خصوصاً أن هناك تراجعاً في الإنتاج من بعض الدول المهمة، مثل نيجيريا، إضافة إلى توقعات منظمة «أوبك» بارتفاع الطلب على النفط في العام الجاري ليصل إلى مستوياته ما قبل «كورونا» بحجم 102 مليون برميل يومياً، وصولاً إلى 110 ملايين برميل يومياً بحلول عام 2025، وهو ما قد يؤدي إلى تفاوت بين مستويات العرض والطلب.
والغريب أن يأتي ذلك في ظل ارتفاع إنتاج روسيا من النفط، إذ خلال النصف الأول من شهر فبراير الجاري ارتفع الإنتاج الروسي بنسبة 1% ليصل إلى نحو 11 مليون برميل يومياً، حيث أشارت وكالة الطاقة الدولية ومقرها باريس إلى أن صادرات النفط الروسية اقتربت من أعلى مستوياتها في شهر يناير الماضي، حيث وجدت الصادراتُ الروسية طريقَها للأسواق الآسيوية بصورة أساسية، إضافة إلى بعض الدول الأوروبية التي رفضت المشاركةَ في المقاطعة، كالمجر على سبيل المثال، في حين استوردت دول أوروبية أخرى النفط الروسي مكرراً من الهند وبعض الدول الآسيوية.
الجانب الآخر المهم، هو أن قرار روسيا بتخفيض الإنتاج لم يؤدِّ إلى أي تغيير في سياسات مجموعة «أوبك +» والتي أكدت جميعها تمسكها بالاتفاق الذي أُبرم مؤخراً والخاص بالمحافظة على مستويات الإنتاج المتفق عليها حتى نهاية العام الجاري، مع الإشارة إلى إمكانية عقد اجتماع طارئ إذا ما استدعت ظروفُ السوق ذلك، حيث يشكل انسجام المواقف الخليجية حجر الأساس لهذا التوجه للمحافظة على توازن الأسواق، إذ توالت التصريحات الخليجية المؤكدة على هذا الالتزام، حيث قال وزير النفط الكويتي بدر الملا «إن قرارات (أوبك بلس) تستند إلى معطيات السوق النفطية وتضمن استقرارها». كما أكد وزير الطاقة الإماراتي سهيل المزروعي أنه «ليست هناك حاجة كبيرة للمجموعة لتغيير مسارها، إذ إن العرض والطلب على النفط متطابقان». وأعقب ذلك تصريح وزير الطاقة السعودي الأمير عبدالعزيز بن سلمان عندما قال الأسبوع الماضي إن «تحالف (أوبك بلس) ملتزم بالاتفاق الذي تم إنجازه أواخر عام 2022 مع التأكيد على استمراره للعام الحالي».
وفي هذا الشأن لا بد من الإشارة إلى ضرورة انسجام المواقف الخليجية، حيث يشكل ذلك أحد أهم الأسس التي من خلالها تمكن المحافظة على المكاسب التي تحققت، خصوصاً وأن دول المجلس لديها برامج تنموية طموحة وبحاجة لتمويلات كبيرة، وهو ما يمكن تحقيقه من خلال أسعار النفط المرتفعة نسبياً، علماً بأن هناك تغيراً جذرياً في سياسات دول المجلس التي أصبحت تتعامل مع تطورات أسواق النفط بموضوعية انطلاقاً من مصالحا المشتركة بعيداً عن العواطف، كما أنها أبعدت السياسات النفطية عن أي تفاوتات في المواقف الأخرى والتي قد تحدث بصورة طبيعية. وهذه مسألة في غاية الأهمية لا بد من المحافظة عليها، وهو ما يحدث فعلا، مما يعني أن أسعار النفط وبفضل الرؤية العملية لدول مجلس التعاون الخليجي والتضامن غير المسبوق لدول «أوبك بلس» ستؤدي إلى المحافظة على توازن أسواق النفط وبقاء الأسعار عند مستوياتها الحالية العادلة في عام 2023. وهو تطور إيجابي لاستقرار الاقتصاد العالمي بمجمله. 
 
*خبير ومستشار اقتصادي