أُختطف المهندس جاسم الأسديّ، العاشرة صباحاً في الأول من (فبراير) 2023، على مشارف بغداد، فالخاطف لا يخشى إلهاً، ولا حكومةً. عادةً يُنفذ الاختطاف في عتمةٍ ليلٍ، فهل سمعتم بخاطفٍ سافر الوجه، وفي وضح النَّهار؟! أشد القوى جبروتاً تختار الفجرَ وقتاً للخطف، «زوار الفجر»! إلا العِراق الخطف به جهاراً نهاراً، وهذا ما حصل مع الأسدي، الذي نذر عمره، ومنذ عشرين عاماً، لإصلاح الأهوار، التي كان صراخ المعارضة مدوياً ضد تجفيفها، وها هم مجاهدو الأمس، يخطفون سادن الأهوار ونورسها، لأنهم يريدونها مشروعاً للتدمير.
ظهر الأسديّ محطماً بعد إطلاقه يوم 15 فبراير الماضي كاشفاً الغرض «ثنيي عن العمل مِن أجل الأهوار... ومطالبتي المستمرة بإدامة هذه البيئة المهمة ثقافيَّاً واقتصادياً... أخذوني إلى جهةٍ مجهولةٍ، بعد أنْ عصبوا عينيَّ، وقيدوا يديَّ، وبقيتُ عندهم خمسة عشر يوماً، اتنقل مِن مكانٍ إلى آخر، في غرفٍ ودهاليزٍ مظلمةٍ، تعرضتُ خلالها إلى أشد أنواع العذاب، أقسى أنواع التَّنكيل الجسدي والنَّفسي، باستخدام معدات مختلفة، منها الكهرباء والعصي والتَّعليق» (تصريح لقناة الشَّرقيَّة). تمعنوا في شهادة المخطوف، وركزوا على «الكهرباء» المتاحة للعذاب، وشحتها للإضاءة!
أقول: أسمعتم بعلو صوت منظمات حقوق الإنسان الإسلاميَّة، زمن المعارضة، وخرسها عندما صار التَّنكيل إسلاميّاً؟! يومها كنا صرعى الأمل الكاذب، ويأتي الإحباط مِن صريع الغواني(ت: 208هج): «وأكثرُ أفعالِ اللّيالي إساءةً/ وأكثر ما تلقى الأماني كواذبا»(الحصري، زهر الآداب). 
تعلمنا والمخطوف في المدرسة «الأسديَّة الابتدائيَّة»، التي تأسست(1924)، ثم إعدادية «الجزائر»، حيث اسم منطقتنا قديماً، لأنها مجموعةُ جزرٍ، قطاراتها وعرباتها القوارب، فلا شيء غير الماء. كان جاسم ذكياً فطناً، مخلصاً لوطنه، لذا لم استغرب ما عمله للأهوار، وهو خريج الجامعة التكنولوجية ببغداد، كذلك لم استغرب اختطافه، فحلمه جعل الأهوار محجةً للسائحين، يعيق تجارة الخراب. كانت الأهوار دلتا النَّهرين، منذ عصر الحضارة القديمة، ومَن يزور المُتحف البريطانيّ لا يفوته مجسد بيت القصب، ومجسد القارب(المشحوف)، وقد شاعهما صاحب «العودة إلى الأهوار» في كتابه.
غير أنَّ إحياء الأهوار، وتأهيلها للسياحة يحتاج أمناً واستقراراً، بينما يريدها الخاطف كهوفاً للعنف، والاتجار بالمدمرات، لهدم العراق مِن الدَّاخل، وهذا سلاحٌ أمضى مِن الدَّمار الشَّامل، لذا حصل الصِّدام بين مصلحة الخاطف وحلم المخطوف.
خطفت سادن الأهوار ونورسها الكائنات التي قال فيها صاحب المعلقة طَرفة بن العبد: «إذا ما غزوا بالجيش حَلق فوقهم/ عَصائب طَيرٍ تهتديّ بعصائب»! ومعنى العصائب والكتائب: «العقبان والرَّخم، تتبع العساكر، تنظر القتلى لتقع عليها»(الديوان بشَرح الشَّمنتريّ). هذا، والولي واحدٌ، وإن اختلفت العناوين.
وُهبَ جاسم عمراً جديداً، فمن العادة لا تترك العقبان والرّخم مخطوفيها أحياءً، تقليداً لفتوى أصدرها فقهاؤهم المتطرفون، وهي التخلص مِن الأسير(انظر: دليل المجاهد)، ومعلوم أنَّ المخطوفَ أقلُ حقَّاً بالحياة مِن الأسير. لكن الصُّدفةَ أنْ تم التَّعرف على نمرة سيارة الخاطفين، وعُرف أحدهم، فثارت عشيرة المخطوف، وهذا لم يتح للمخطوفين السَّابقين، الذين قُتلوا وما زالت أسرهم تنتظر عودتهم!
لقد أكثروا الشّكوى عن الظُّلم الذي أصاب الأهوار، يوم كانوا يجاهدون لأخذ السُّلطة بين قصبها وبرديها، وحينها كانت ملأى بالعمائم المسلحة، لكن ما أن تمكنوا صاروا عليها نموذج جلال الدّين أبو القاسم ابن الزَّكي الثَّالث بن معية، نقيب صدر الفراتيّة، الذي قال فيه مزيد الخشكريّ(قُتل: 666ه): «فكأنّما الهور الطُّفوف وأهله الشّ/ هداء وابن معيّة ابن زياد»(ابن السَّاعي، الجامع المختصر).
صار الخطف حقَّاً مكفولاً لهم، فالخاطف لا يعد نفسه خارجاً على القانون، إنما هو القانون! أقول: مَن ينتصر لحلم المخطوف، فالأحزاب الدِّينيَّة كافة سكتت، والسُّكوت رضا وثناءُ!
*كاتب عراقي