في مثل هذه الأيام قبل ستين سنة (5 مارس 1963) رحل رائد التنوير المصري أحمد لطفي السيد، تلميذ الإمامين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وكان الداعية الأكبر لليبرالية، ورجل الدولة والفكر ورئيس المجمع اللغوي العربي ومؤسس أول جامعة عربية حديثة (جامعة القاهرة).

كان أحمد لطفي السيد يدافع عن نموذج التنوير الأوروبي ويراه الأفقَ الأوحدَ المتاحَ للتقدم، ولو تحت المظلة الاستعمارية. بعد هذا الجيل المؤسِّس، تراجعت الدعوة للتنوير في الفكر العربي، وانفصمت العلاقة الأصلية بين الأنوار والحداثة. ولقد برز اتجاه واسع في الفكر العربي، ينتقد المركزيةَ الأوروبيةَ، ويدعو إلى حداثة متناسقة مع الهوية الحضارية والقيميّة للمجتمعات العربية الإسلامية، بما يعني القطيعةَ مع ديناميكية التنوير الأوروبي التي التبست بمفهومين آخرين هما العلمانية اللادينية وأيديولوجيا التقدم التاريخاني.

ولهذه الإشكالية حقل انطباقها في الفكر الغربي نفسه، وذلك ما أماط عنه اللثامَ مؤخراً المؤرخُ الفرنسي «أنطوان ليلتي» في كتابه «تراث الأنوار.. التباسات الحداثة». ما يبينه «ليلتي» هو أن حركة الأنوار كانت من آثار الحداثة الأولى، من حيث الأزمة المعيارية العميقة التي عرفتها أوروبا المسيحية بعد الحروب العقَدية الدموية، مع ظهور بوادر الدولة القومية وانبثاق العولمة الأولى (ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر). لقد عبَّر فكرُ الأنوار عن مأزق الحداثة من حيث التعارض ما بين مسلّمة العقل الكوني المجسِّد لوحدة الطبيعة الإنسانية والمحمَّل بمُثُل التحرر والتقدم وظاهرة الاستثناء الأوروبي، أي انفراد مجتمعات وثقافة بعينها بالريادة الحديثة بفضل خصوصياتها التاريخية الانتروبولوجية.

والسؤال المطروح هنا: هل الحداثة مرحلةٌ من التقدم الإنساني تصل إليها كافةُ المجتمعات وفق قانون للتطور التاريخي الكوني، أم هي ظاهرةٌ تنفرد بها المجتمعات الأوروبية لأسباب جوهرية لها علاقة بأنساقها العقَدية والثقافية؟ وفقَ المقاربة الأولى، يُنظر إلى الحداثة من حيث هي نتاج الثورة الصناعية وما أفضت إليه من تكريس العقلانية التجريبية المطبَّقة ونظام قسمة العمل والفردية الليبرالية، وتلك سمات كونية تتأقلم مع كل السياقات الحضارية والاجتماعية.

ووفق المقاربة الثانية تكون الحداثةُ نفسُها التعبيرَ المؤسسيَّ الملموسَ عن قيم وأفكار التنوير الفلسفية والأيديولوجية. وعلى الرغم من التداخل الكثيف بين فكر الأنوار وحركية التحديث، فإن الفكرَ الفلسفي والاجتماعي الغربي عرف نمطين متمايزين من نقد التنوير ونقد الحداثة.

كان جان جاك روسو في القرن الثامن عشر من رواد فكر التنوير ومن أهم دعاة العقد الاجتماعي وأول من بلور فكرة التحسّن النوعي للبشرية، إلا أنه كان في الآن نفسه أول من وجّه نقداً جذرياً للحداثة مستبِقاً نقدَ فلاسفة مدرسة فرانكفورت لظاهرة الهيمنة الشاملة التي تُفضي إليها العقلانيةُ الأداتية التقنية التي تنتهي إلى تحويل الإنسان ذاتِه إلى مادة للتسلط والاستغلال. لقد اعتبر روسو ومن بعده فلاسفة التنوير الألماني أن قيم النقدية العقلانية والتقدم التاريخي والتحرر، ليست خاصة بالمجتمعات الحديثة، بل قد تكون عُرضةً للتلاشي والضياع في مجتمعات تتحكم فيها التقنية الاستهلاكية والنفعية الفردية.

وقد وصل هذا المسلك الفكري مداه في الكتابات الأخيرة حول «ليبرالية الرقابة» و«صناعة التواطؤ» و«الوشم السياسي».. وكلها تدور حول الأثر المدمر للعقلانية التحكمية المنفصلة عن مُثُل التحرر والذاتية الإنسانية التي نادى بها فكر الأنوار. لقد اعتبر الفيلسوف الألماني الأميركي «ليو شتراوس» أن معاييرَ التنوير أقوى وأنجع في الفلسفات السياسية والأخلاقية القديمة (اليونانية والإسلامية الوسيطة) لكونها تحافظ على مبدأ الغائية الطبيعية للوجود الإنساني وعلى فكرة العدالة بمضمونها القيمي الجوهري.

ولأمرٍ ما عمل أحمد لطفي السيد على ترجمة نصوص أرسطو الأخلاقية والسياسية التي اعتبر أنها مفيدةٌ للمجتمعات العربية المعاصرة، رغم أنها تطرح إشكالات وأفكار بعيدة عن سياق الحداثة الأوروبية. إنه المسلك نفسه الذي تبناه طه حسين (خاصةً في كتابه «قادة الفكر»)، وكان شديد القرب فكرياً وسياسياً من لطفي السيد.

السؤال الذي نخلص إليه هو: هل نحن بحاجة إلى أفكار التنوير أم إلى التحديث من حيث هو مسار تاريخي واجتماعي؟ لا يبدو أن خيار التحديث في ذاته يطرح إشكالا جوهرياً بالنظر إلى تعدد مقاربات الحداثة والانطباع السائد بإمكانية بنائها على أُسس معيارية مستقلة، أما مثال التنوير فيبدو معقداً والتباينُ واسع حول مضمونه ومرحليته، ومن هنا أهمية الرجوع إلى تركة التنوير العربي الحديث.

*أكاديمي موريتاني