كثيرة هي المتغيراتُ التي طالت البنيةَ الاقتصاديةَ والاستثمارية في العالم خلال العقد الماضي، نتيجةً للصراعات والحروب الدائرة والتي أدت إلى التخلي عن بعض الأسس التي قام عليها النظامُ الاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية، والتي شكّلت تقليدياً بنيةَ النظام الرأسمالي، إذ أن الأمر لا يقتصر على الصراعات، كمسبب وحيد لهذا التغير الجوهري في العلاقات الدولية، وإنما هناك تغيراتٌ جوهريةٌ أخرى طالت بنيةَ هذا النظام بسبب تغير طبيعة ملكية رأس المال الذي انتقل من طابعه الصناعي الإنتاجي إلى نمط جديد من رأس المال الخدمي والمالي الساعي للربح السريع والنهم.

وإن تغيراً بهذا الحجم البنيوي لا بد وأن تكون له تداعيات اقتصادية وسياسية واجتماعية عميقة تعبّر عن المرحلة الحالية من التطور، وسنكتفي هنا بالتطرق إلى إحدى هذه الإفرازات الكثيرة، أي تلك الخاصة بإعادة تموضع الاستثمارات والناجم عن التغيرات في البنية الاقتصادية من جهة، وعن الإجراءات التي اتخذت نتيجةً للصراعات المحتدمة بعد بروز العديد من الدول المتقدمة من خارج المجموعة التقليدية من جهة أخرى.

وبالإشارة إلى أخطر نزاع قائم حالياً بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، فقد أدى ذلك إلى نزوح كبير لرؤوس الأموال بعد التجميد ومصادرات الأملاك الخاصة، فرأس المال جبان، كما يقال، وهو يخرج بسرعة عند شعوره بالخطر ليبحث عن أماكن أكثر أمناً واستقراراً، تلك الأماكن الآمنة القليلة المتبقية الآن في بعض المناطق، والتي يأتي في مقدمتها دول مجلس التعاون الخليجي المتميزة بالأمن والاستقرار وحماية الملكية الفردية.

لذا رأينا انتقال أموال هائلة في الآونة الأخيرة من المراكز التقليدية إلى دول المنطقة هرباً من العقوبات والمصادرات، إذ أحدثت هذه الأموال، والمقدرة بعشرات مليارات الدولارات، بعض التأثير في الاقتصاديات الخليجية، حيث تم التعامل معها وفق الأنظمة والقوانين المعمول بها في دول المجلس، ضمن قناعة خليجية قديمة تتمحور حول ضرورة احترام الملْكية بغض النظر عن أية تطورات أو مواقف، وهذا أحد الأسباب التي أدت تاريخياً إلى انتقال التجارة من «بندر لنجة» على الضفة الشرقية للخليج العربي، إذ لم يحدث وأن صودرت أي أملاك في دول التعاون الخليجي، وحتى في بعض حالات الفساد التي تمت محاربتها في بعض دول المجلس خلال السنوات الماضية، تم احترام قدسية الملكية الفردية، وتم الاكتفاء بالتعرض للأموال الناجمة عن الفساد فقط، مع احترام بقية مكونات وأصول هذه الملكيات التي لم تمس.

وهذا التعامل الخليجي مع رؤوس الأموال والاستثمارات المحلية والخارجية أكسب دول المجلس ثقةً عالميةً وحوَّلها إلى أحد أهم مراكز استقطاب رؤوس الأموال، خصوصاً أن بعض الدول المحايدة، كسويسرا والتي حافظت على هذا الحياد أكثر من مئة عام وتمكنت بفضله من استقطاب أموال هائلة، بما في ذلك أثناء الحربين العالميتين الأولى والثانية، تخلّت مؤخراً عن هذا الحياد، وهو ما أثار مخاوف المستثمرين.

وإضافةً إلى دول الخليج، هناك أيضاً سنغافورة التي لا تفرض قيوداً على التحويلات الأجنبية وتتمتع هي كذلك باحترام الملكية الفردية.ويتوقع أن تستمر حركة إعادة تموضع رؤوس الأموال في الفترة القادمة بسبب اشتداد الصراعات والحروب بين الدول الكبرى والتي تخلى معظمها عن قدسية حماية الملكية الخاصة المتبعة منذ الأيام الأولى لنشأة النظام الرأسمالي قبل ثلاثة قرون، وهو تطور مثير يعبر عن التغير الذي طال بِنية هذا النظام والذي أشرنا إليه في البداية.

ويبقى هناك سؤال مهم يتعلق بكيفية التعامل مع الاستثمارات الأجنبية المباشرة الكبيرة القادمة لدول المجلس، وتحديد تأثيراتها على الأوضاع الاقتصادية وإمكانية استقرارها وتحقيق أقصى استفادة منها.. وهذا موضوع يطول وبحاجة لمعالجة ودراسة شاملة، إلا أن الإيجابي في الأمر، هو أن دخول هذه الأموال وبهذا الحجم لدول المجلس لم يؤد إلى ارتفاع أسعار الأصول، كما يحدث في مثل هذه الحالات، كما ظلت نِسب التضخم ضمن معدلاتها المقبولة، في حين ارتفعت أسعار الأصول بنسب معتدلة، كأسعار الأسهم والعقارات، وهو ما ترك آثاراً إيجابية على معدلات النمو في دول مجلس التعاون الخليجي.

*خبير ومستشار اقتصادي