لم يعد خافياً منذ مدة أن النظام الديمقراطي الذي يُفترض أنه أفضل نُظم الحكم يواجه تحديات وأزمات سنهتم بجانبها النابع من بنية النظام الديمقراطي ذاته، أي البنية القائمة على فكرة حكم الأغلبية. وفي هذا الصدد يواجه النظام الديمقراطي تحديين أساسيين، أولهما يبدأ من الصراع حول تحديد الأغلبية التي تسفر عنها نتائج الانتخابات، فطالما أن الأغلبية هي التي تنفرد بالحكم فإن أولى خطوات عرقلة وصولها إليه تتمثل في محاولة إثبات أنها ليست أغلبية أصلاً، وعندما يتم ذلك بآليات قانونية، كتقديم الطعون وإعادة فرز الأصوات، لا تكون هناك مشكلة، لكن المشاكل تبدأ عندما يحاول الفريق المهزوم في الانتخابات الاعتراض على النتائج بوسائل غير قانونية، كما حدث في اقتحام أنصار دونالد ترامب الكونجرس الأميركي قبيل تصديقه على نتائج الانتخابات في يناير 2021، وكما حدث في اقتحام الآلاف من أنصار الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو مقرَّ البرلمان والمحكمة العليا وحصار قصر الرئاسة في يناير الماضي.
أما التحدي الأساسي الثاني الذي تواجهه النظم الديمقراطية، فهو ما تفعله حكومات الأغلبية بأغلبيتها، صحيح أنه من حقها أن تنفذ البرنامج الذي فازت على أساسه بالأغلبية، غير أن المعضلة تكمن في أن بعض الإجراءات أو التشريعات التي تمضي هذه الحكومات في اتخاذها قد لا تكون قد طُرِحت في هذا البرنامج، أو أن تكون اتجاهات الرأي العام بشأنها قد تغيرت مما يجعلها لا تحظى بشعبية كافية، مما يؤثر على مدى ديمقراطية محتواها. ويزداد هذا الاحتمال عندما يكون هناك تقارب واضح بين وزن كل من الأغلبية والأقلية، كما هو الحال الآن في كل من إسرائيل وفرنسا.
ففي إسرائيل يحاول الائتلاف الحاكم الآن تغيير موازين القوى بين السلطات الثلاثة على حساب السلطة القضائية، وذلك لأن الإصلاحات المقترحة تحد من صلاحيات المحكمة العليا في إلغاء القوانين، وتسمح للكنيست بإعادة سن القوانين التي استبعدتها المحكمة، وتمنح الحكومةَ السيطرةَ على تعيين القضاة.. وهو ما يرى قانونيون إسرائيليون بارزون أنه يدمر الفصلَ بين السلطات طالما أن الائتلاف الحاكم يسيطر على البرلمان، وهذا الأخير في الطريق للسيطرة على السلطة القضائية، وهو ما استدعى المعارضةَ الشعبيةَ غير المسبوقة لهذه الإصلاحات.
وفي فرنسا لا يسيطر حزب الرئيس على الجمعية الوطنية، وإنما يحكم من خلال ائتلاف من الواضح أنه لم يؤمِّن له الأغلبيةَ المطلوبةَ لتمرير مشروع قانون إطالة سن التقاعد، فاضطُّر لتفعيل المادة 49 فقرة 3 من الدستور، والتي تتيح له تمرير التشريع من دون تصويت. وهو ما أفضى لطرح فكرة سحب الثقة من حكومته. ويذكر أن الناطق باسم الحكومة أقرّ بقوة المعارضة للتشريع، والتي تقدرها بعض المصادر بنحو 80%‏ من الرأي العام. غير أن حجة الحكومة هي أن التشريع ضروري لاستدامة نظام الضمان الاجتماعي.
وفي الحالتين، إسرائيل وفرنسا، يفضي حكم الأغلبية إلى تصرفات قد تكون مرفوضة من الأغلبية، أو على الأقل من أقلية كبيرة لا يمكن تجاهلها انطلاقاً من المنطق الديمقراطي نفسه، الأمر الذي يتعارض معه أصلاً. فهل يمكن القول بأن الديمقراطية تتعرض لتحدٍ وجودي، أم أنها تملك آلياتها الذاتية للتصحيح؟ الواقع أن ثمة آليات للتصحيح الذاتي، لكنها قد لا تكون كافية لإخراج النظام الديمقراطي من أزمته، وهو موضوع يستحق نقاشاً تفصيلياً.

*أستاذ العلوم السياسية - جامعة القاهرة